الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره وقال منصور عن إبراهيم لا بأس بالقراءة في الحمام وبكتب الرسالة على غير وضوء وقال حماد عن إبراهيم إن كان عليهم إزار فسلم وإلا فلا تسلم

                                                                                                                                                                                                        181 حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن مخرمة بن سليمان عن كريب مولى ابن عباس أن عبد الله بن عباس أخبره أنه بات ليلة عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه ثم قام يصلي قال ابن عباس فقمت فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمنى يفتلها فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب قراءة القرآن بعد الحدث ) أي : الأصغر ( وغيره ) أي : من مظان الحدث . وقال الكرماني : الضمير يعود على القرآن ، والتقدير باب قراءة القرآن وغيره أي : الذكر والسلام ونحوهما بعد الحدث ، [ ص: 344 ] ويلزم منه الفصل بين المتعاطفين ; ولأنه إن جازت القراءة بعد الحدث فجواز غيرها من الأذكار بطريق الأولى ، فهو مستغنى عن ذكره بخلاف غير الحدث من نواقض الوضوء ، وقد تقدم بيان المراد بالحدث وهو يؤيد ما قررته .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال منصور ) أي : ابن المعتمر ( عن إبراهيم ) أي : النخعي ، وأثره هذا وصله سعيد بن منصور عن أبي عوانة عن منصور مثله ، وروى عبد الرزاق عن الثوري عن منصور قال : سألت إبراهيم عن القراءة في الحمام فقال : لم يبن للقراءة فيه . قلت : وهذا لا يخالف رواية أبي عوانة ، فإنها تتعلق بمطلق الجواز وقد روى سعيد بن منصور أيضا عن محمد بن أبان عن حماد بن أبي سليمان قال : سألت إبراهيم عن القراءة في الحمام فقال يكره ذلك ، انتهى . والإسناد الأول أصح .

                                                                                                                                                                                                        وروى ابن المنذر عن علي قال : بئس البيت الحمام ينزع فيه الحياء ، ولا يقرأ فيه آية من كتاب الله . وهذا لا يدل على كراهة القراءة ، وإنما هو إخبار بما هو الواقع بأن شأن من يكون في الحمام أن يلتهي عن القراءة .

                                                                                                                                                                                                        وحكيت الكراهة عن أبي حنيفة ، وخالفه صاحبه محمد بن الحسن ومالك فقالا لا تكره ; لأنه ليس فيه دليل خاص ، وبه صرح صاحبا العدة والبيان من الشافعية . وقال النووي في التبيان عن الأصحاب : لا تكره ، فأطلق . لكن في شرح الكفاية للصيمري : لا ينبغي أن يقرأ . وسوى الحليمي بينه وبين القراءة حال قضاء الحاجة . ورجح السبكي الكبير عدم الكراهة واحتج بأن القراءة مطلوبة والاستكثار منها مطلوب والحدث يكثر ، فلو كرهت لفات خير كثير . ثم قال : حكم القراءة في الحمام إن كان القارئ في مكان نظيف وليس فيه كشف عورة لم يكره ، وإلا كره .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ويكتب الرسالة ) كذا في رواية الأكثر بلفظ مضارع كتب ، وفي رواية كريمة " بكتب " بموحدة مكسورة وكاف مفتوحة عطفا على قوله بالقراءة . وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن الثوري أيضا عن منصور قال : سألت إبراهيم : أأكتب الرسالة على غير وضوء ؟ قال : نعم . وتبين بهذا أن قوله على غير وضوء يتعلق بالكتابة لا بالقراءة في الحمام . ولما كان من شأن الرسائل أن تصدر بالبسملة توهم السائل أن ذلك يكره لمن كان على غير وضوء ، لكن يمكن أن يقال : إن كاتب الرسالة لا يقصد القراءة فلا يستوي مع القراءة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال حماد ) هو ابن أبي سليمان فقيه الكوفة ( عن إبراهيم ) أي : النخعي ( إن كان عليهم ) أي : على من في الحمام ( إزار ) المراد به الجنس أي : على كل منهم إزار . وأثره هذا وصله الثوري في جامعه عنه ، والنهي عن السلام عليهم إما إهانة لهم لكونهم على بدعة ، وإما لكونه يستدعي منهم الرد ، والتلفظ بالسلام فيه ذكر الله ؛ لأن السلام من أسمائه ، وأن لفظ " سلام عليكم " من القرآن ، والمتعري عن الإزار مشابه لمن هو في الخلاء . وبهذا التقرير يتوجه ذكر هذا الأثر في هذه الترجمة .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 345 ] قوله : ( حدثنا إسماعيل ) هو ابن أبي أويس .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( مخرمة ) بفتح الميم وإسكان المعجمة ، والإسناد كله مدنيون .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فاضطجعت ) قائل ذلك هو ابن عباس ، وفيه التفات لأن أسلوب الكلام كان يقتضي أن يقول فاضطجع لأنه قال قبل ذلك إنه بات .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( في عرض ) بفتح أوله على المشهور ، وبالضم أيضا ، وأنكره الباجي من جهة النقل ومن جهة المعنى قال : لأن العرض بالضم هو الجانب وهو لفظ مشترك . قلت : لكن لما قال " في طولها " تعين المراد ، وقد صحت به الرواية فلا وجه للإنكار .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يمسح النوم ) أي : يمسح بيده عينيه ، من باب إطلاق اسم الحال على المحل ، أو " أثر النوم " من باب إطلاق السبب على المسبب .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ثم قرأ العشر الآيات أولها ) إن في خلق السماوات والأرض إلى آخر السورة . قال ابن بطال ومن تبعه : فيه دليل على رد من كره قراءة القرآن على غير طهارة ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ . وتعقبه ابن المنير وغيره بأن ذلك مفرع على أن النوم في حقه ينقض ، وليس كذلك ; لأنه قال تنام عيناي ولا ينام قلبي وأما كونه توضأ عقب ذلك فلعله جدد الوضوء أو أحدث بعد ذلك فتوضأ . قلت : وهو تعقيب جيد بالنسبة إلى قول ابن بطال : بعد قيامه من النوم ; لأنه لم يتعين كونه أحدث في النوم ، لكن لما عقب ذلك بالوضوء كان ظاهرا في كونه أحدث ، ولا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث وهو نائم ، نعم خصوصيته أنه إن وقع شعر به بخلاف غيره . وما ادعوه من التجديد وغيره الأصل عدمه .

                                                                                                                                                                                                        وقد سبق الإسماعيلي إلى معنى ما ذكره ابن المنير ، والأظهر أن مناسبة الحديث للترجمة من جهة أن مضاجعة الأهل في الفراش لا تخلو من الملامسة . ويمكن أن يؤخذ ذلك من قول ابن عباس " فصنعت مثل ما صنع " ولم يرد المصنف أن مجرد نومه - صلى الله عليه وسلم - ينقض لأن في آخر هذا الحديث عنده في باب التخفيف في الوضوء " ثم اضطجع فنام حتى نفخ ثم صلى " . ثم رأيت في الحلبيات للسبكي الكبير بعد أن ذكر اعتراض الإسماعيلي : لعل البخاري احتج بفعل ابن عباس بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو اعتبر اضطجاع النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أهله واللمس ينقض الوضوء . [ ص: 346 ] قلت : ويؤخذ من هذا الحديث توجيه ما قيدت الحديث به في ترجمة الباب ، وأن المراد به الأصغر ، إذ لو كان الأكبر لما اقتصر على الوضوء ثم صلى بل كان يغتسل .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إلى شن معلقة ) قال الخطابي : الشن القربة التي تبدت للبلاء ، ولذلك قال في هذه الرواية " معلقة " فأنث لإرادة القربة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقمت فصنعت مثل ما صنع ) تقدمت الإشارة في باب تخفيف الوضوء إلى هذا الموضع فليراجع من ثم ، وستأتي بقية مباحث هذا الحديث في كتاب الوتر إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : روى مسلم من حديث ابن عمر كراهة ذكر الله بعد الحديث ; لكنه على غير شرط المصنف .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية