الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون الظاهر أن هذه الجملة معطوفة على جملة قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين وأن قولا محذوفا دل عليه فعل جاءنا الدال على أن الفريقين حضرا للحساب وتلك الحضرة تؤذن بالمقاولة فإن الفريقين لما حضرا وتبرأ أحدهما من الآخر قصدا للتفصي من المؤاخذة كما تقدمت الإشارة إليه آنفا فيقول الله ولن ينفعكم اليوم أنكم في العذاب مشتركون .

والخطاب موجه للذين عشوا عن ذكر الرحمن ولشياطينهم .

وفي هذا الكلام إشارة إلى كلام مطوي ، والتقدير : لا تلقوا التبعة على القرناء فأنتم مؤاخذون بطاعتهم وهم مؤاخذون بإضلالكم وأنتم مشتركون في العذاب ولن ينفعكم أنكم في العذاب مشتركون لأن عذاب فريق لا يخفف عن فريق كما قال تعالى لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون .

ووقوع فعل ينفعكم في سياق النفي يدل على نفي أن يكون الاشتراك في العذاب نافعا بحال لأنه لا يخفف عن الشريك من عذابه . وأما ما يتعارفه الناس من تسلي أحد برؤية مثله ممن مني بمصيبة ؛ فذلك من أوهام البشر في الحياة الدنيا ، ولعل الله جعل لهم ذلك رحمة بهم في الدنيا ، وأما الآخرة فعالم الحقائق دون الأوهام . وفي هذا التوهم جاء قول الخنساء :


ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي



وقرأ الجمهور أنكم بفتح همزة ( أن ) على جعل المصدر فاعلا . وقرأ ابن عامر إنكم بكسر الهمزة على الاستئناف ويكون الوقف عند قوله إذ ظلمتم [ ص: 215 ] وفاعل ينفعكم ضمير عائد على التمني بقولهم يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين ، أي لن ينفعكم تمنيكم ولا تفصيكم .

و ( إذ ) أصله ظرف مبهم للزمن الماضي تفسره الجملة التي يضاف هو إليها ويخرج عن الظرفية إلى ما يقاربها بتوسع أو إلى ما يشابهها بالمجاز . وهو التعليل ، وهي هنا مجاز في معنى التعليل ، شبهت علة الشيء وسببه بالظرف في اللزوم له . وقد ذكر في مغني اللبيب معنى التعليل من معاني ( إذ ) ولم ينسبه لأحد من أئمة النحو واللغة .

وجوز الزمخشري أن تكون ( إذ ) بدلا من اليوم ، وتأول الكلام على جعل فعل " ظلمتم " بمعنى : تبين أنكم ظلمتم ، أي واستعمل الإخبار بمعنى التبين ، كقول زائد بن صعصعة الفقعسي :


إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة     ولم تجدي من أن تقري به بدا



أي تبين أن لم تلدني لئيمة ، وتبعه ابن الحاجب في أماليه وقال ابن جني : راجعت أبا علي مرارا في قوله تعالى ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم الآية مستشكلا إبدال ( إذ ) من اليوم ؛ فآخر ما تحصل منه أن الدنيا والآخرة سواء في حكم الله وعلمه فكأن اليوم ماض أو كان ( إذ ) مستقبلة ا ه . وهو جواب وهن مدخول .

وأقول : اجتمع في هذه الآية دوال على ثلاثة أزمنة وهي ( لن ) لنفي المستقبل ، و " اليوم " اسم لزمن الحال ، و ( إذ ) اسم لزمن المضي ، وثلاثتها منوطة بفعل " ينفعكم " ومقتضياتها ينافي بعضها بعضا ، فالنفي في المستقبل ينافي التقييد بـ " اليوم " الذي هو للحال ، و ( إذ ) ينافي نفي النفع في المستقبل وينافي التقييد بـ " اليوم " فتصدى الزمخشري وغيره لدفع التنافي بين مقتضى ( إذ ) ومقتضى " اليوم " بتأويل معنى ( إذ ) كما علمت ، ولم يتصد هو ولا غيره لدفع التنافي بين مقتضى ( اليوم ) الدال على زمن الحال وبين مقتضى ( لن ) وهو حصول النفي في الاستقبال . وأنا أرى لدفعه أن يكون اليوم ظرفا للحكم والإخبار ، أي تقرر اليوم انتفاء انتفاعكم بالاشتراك في العذاب انتفاء مؤبدا من الآن ، كقول مقدام الدبيري :

[ ص: 216 ] 69 لن يخلص العام خليل عشرا     ذاق الضماد أو يزور القبرا


وقد حصل من اجتماع هذه الدوال الثلاث في الآية طباق عزيز بين ثلاثة معان متضادة في الجملة .

التالي السابق


الخدمات العلمية