الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر إنفاذ جيش أسامة بن زيد

قد ذكرنا استعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد على جيش ، وأمره بالتوجه إلى [ ص: 195 ] الشام ، وكان قد ضرب البعث على أهل المدينة ومن حولها ، وفيهم عمر بن الخطاب ، فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسر الجيش ، وارتدت العرب إما عامة أو خاصة من كل قبيلة ، وظهر النفاق ، واشرأبت يهود والنصرانية ، وبقي المسلمون كالغنم في الليلة المطيرة ؛ لفقد نبيهم ، وقلتهم وكثرة عدوهم . فقال الناس لأبي بكر : إن هؤلاء - يعنون جيش أسامة - جند المسلمين ، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك ، فلا ينبغي أن تفرق جماعة المسلمين عنك . فقال أبو بكر : والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تختطفني لأنفذت جيش أسامة كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - . فخاطب الناس ، وأمرهم بالتجهز للغزو ، وأن يخرج كل من هو من جيش أسامة إلى معسكره بالجرف ، فخرجوا كما أمرهم ، وجيش أبو بكر من بقي من تلك القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم ، فصاروا مسالح حول قبائلهم ، وهم قليل .

فلما خرج الجيش إلى معسكرهم بالجرف وتكاملوا - أرسل أسامة عمر بن الخطاب ، وكان معه في جيشه ، إلى أبي بكر يستأذنه أن يرجع الناس ، وقال : إن معي وجوه الناس وحدهم ، ولا آمن على خليفة رسول الله ، وحرم رسول الله والمسلمين أن يتخطفهم المشركون . وقال من مع أسامة من الأنصار لعمر بن الخطاب : إن أبا بكر خليفة رسول الله ، فإن أبى إلا أن نمضي فأبلغه عنا ، واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلا أقدم سنا من أسامة .

فخرج عمر بأمر أسامة إلى أبي بكر ، فأخبره بما قال أسامة . فقال : لو خطفتني الكلاب والذئاب لأنفذته كما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أرد قضاء قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته . قال عمر : فإن الأنصار تطلب رجلا أقدم سنا من أسامة . فوثب أبو بكر ، وكان جالسا ، وأخذ بلحية عمر وقال : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ! استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتأمرني أن أعزله ؟ !

ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم وأشخصهم وشيعهم ، وهو ماش وأسامة راكب ، فقال له أسامة : يا خليفة رسول الله ، لتركبن أو لأنزلن ! فقال : والله لا نزلت ولا أركب ، وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله ! فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له ، وسبعمائة درجة ترفع له ، وسبعمائة سيئة تمحى عنه .

[ ص: 196 ] فلما أراد أن يرجع قال لأسامة : إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل ، فأذن له ، ثم وصاهم فقال : لا تخونوا ، ولا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلا وتحرقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة ، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع ، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له ، وسوف تقدمون على قوم قد فحصوا أوساط رءوسهم ، وتركوا حولها مثل العصائب ، فاخفقوهم بالسيف خفقا . اندفعوا باسم الله .

وأوصى أسامة أن يفعل ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

فسار وأوقع بقبائل من ناس قضاعة التي ارتدت ، وغنم وعاد ، وكانت غيبته أربعين يوما ، وقيل : سبعين يوما .

وكان إنفاذ جيش أسامة أعظم الأمور نفعا للمسلمين ، فإن العرب قالوا : لو لم يكن بهم قوة لما أرسلوا هذا الجيش ، فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية