الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير

خبر ثالث أو رابع عن الضمير في قوله : وهو على كل شيء قدير . وموقع هذه الجملة كالنتيجة للدليل فإنه لما قدم ما هو نعم عظيمة تبين أن الله لا يماثله [ ص: 46 ] شيء من الأشياء في تدبيره وإنعامه .

ومعنى ليس كمثله شيء ليس مثله شيء ، فأقحمت كاف التشبيه على ( مثل ) وهي بمعناه لأن معنى المثل هو التشبيه ، فتعين أن الكاف مفيدة تأكيدا لمعنى المثل ، وهو من التأكيد اللفظي باللفظ المرادف من غير جنسه ، وحسنه أن المؤكد اسم فأشبه مدخول كاف التشبيه المخالف لمعنى الكاف فلم يكن فيه الثقل الذي في قول خطام المجاشعي :


وصاليات ككما يؤثفين



وإذ قد كان المثل واقعا في حيز النفي فالكاف تأكيد لنفيه فكأنه نفى المثل عنه تعالى بجملتين تعليما للمسلمين كيف يبطلون مماثلة الأصنام لله تعالى .

وهذا الوجه هو رأي ثعلب وابن جني والزجاج والراغب وأبي البقاء وابن عطية .

وجعله في الكشاف وجها ثانيا ، وقدم قبله أن تكون الكاف غير مزيدة ، وأن التقدير : ليس شبيه مثله شيء . والمراد : ليس شبه ذاته شيء ، فأثبت لذاته مثلا ثم نفى عن ذلك المثل أن يكون له مماثل كناية عن نفي المماثل لذات الله تعالى ، أي بطريق لازم اللازم لأنه إذا نفى المثل عن مثله فقد انتفى المثل عنه إذ لو كان له مثل لما استقام قولك : ليس شيء مثل مثله . وجعله من باب قول العرب : فلان قد أيفعت لداته ، أي أيفع هو فكني بإيفاع لداته عن إيفاعه .

وقول رقيقة بنت صيفي في حديث سقيا عبد المطلب : ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته ، أي ويكون معهم الطيب الطاهر يعني النبيء صلى الله عليه وسلم .

وتبعه على ذلك ابن المنير في الانتصاف . وبعض العلماء يقول : هو كقولك ليس لأخي زيد أخ ، تريد نفي أن يكون لزيد أخ لأنه لو كان لزيد أخ لكان زيد أخا [ ص: 47 ] لأخيه فلما نفيت أن يكون لأخيه أخ فقد نفيت أن يكون لزيد أخ ، ولا ينبغي التعويل على هذا لما في ذلك من التكلف والإبهام وكلاهما مما ينبو عنه المقام .

وقد شمل نفي المماثلة إبطال ما نسبوا لله البنات وهو مناسبة وقوعه عقب قوله : جعل لكم من أنفسكم أزواجا الآية .

وحديث سقيا عبد المطلب ، أي خبر استسقائه لقريش أن رقيقة بنت أبي صيفي قالت : تتابعت على قريش سنون أقحلت الضرع وأدقت العظم ، فبينا أنا نائمة إذا هاتف يهتف : ( يا معشر قريش ، إن هذا النبيء المبعوث منكم قد أظلتكم أيامه ألا فانظروا رجلا منكم وسيطا عظاما جساما أبيض أوطف الأهداب سهل الخدين أشم العرنين فليخلص هو وولده ، ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته وليهبط إليه من كل بطن رجل فليشنوا من الماء وليمسوا من الطيب ثم ليرتقوا أبا قبيس فليستسق الرجل وليؤمنوا فعثتم ما شئتم ) إلخ . قالوا : وكان معهم النبيء صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ غلام .

واعلم أن هذه الآية نفت أن يكون الشيء من الموجودات مثلا لله تعالى . والمثل يحمل عند إطلاقه على أكمل أفراده ، قال فخر الدين : ( المثلان هما : اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته ) اهـ . فلا يسمى مثلا حقا إلا المماثل في الحقيقة والماهية وأجزائها ولوازمها دون العوارض ، فالآية نفت أن يكون شيء من الموجودات مماثلا لله تعالى في صفات ذاته ؛ لأن ذات الله تعالى لا يماثلها ذوات المخلوقات ، ويلزم من ذلك أن كل ما ثبت للمخلوقات في محسوس ذواتها فهو منتف عن ذات الله تعالى .

وبذلك كانت هذه الآية أصلا في تنزيه الله تعالى عن الجوارح والحواس والأعضاء عند أهل التأويل ، والذين أثبتوا لله تعالى ما ورد في القرآن مما نسميه بالمتشابه فإنما أثبتوه مع التنزيه عن ظاهره إذ لا خلاف في إعمال قوله : ليس كمثله شيء وأنه لا شبيه له ولا نظير له .

وإذ قد اتفقنا على هذا الأصل لم يبق خلاف في تأويل النصوص الموهمة [ ص: 48 ] التشبيه ، إلا أن تأويل سلفنا كان تأويلا جمليا ، وتأويل خلفهم كان تأويلا تفصيليا كتأويلهم اليد بالقدرة ، والعين بالعلم ، وبسط اليدين بالجود ، والوجه بالذات ، والنزول بتمثيل حال الإجابة والقبول بحال نزول المرتفع من مكانه الممتنع إلى حيث يكون سائلوه لينيلهم ما سألوه . ولهذا قالوا : طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم .

ولما أفاد قوله : ليس كمثله شيء صفات السلوب أعقب بإثبات صفة العلم لله تعالى وهي من الصفات المعنوية وذلك بوصفه بـ السميع البصير الدالين على تعلق علمه بالموجودات من المسموعات والمبصرات تنبيها على أن نفي مماثلة الأشياء لله تعالى لا يتوهم منه أن الله منزه عن الاتصاف بما اتصفت به المخلوقات من أوصاف الكمال المعنوية كالحياة والعلم ولكن صفات المخلوقات لا تشبه صفاته تعالى في كمالها لأنها في المخلوقات عارضة ، وهي واجبة لله تعالى في منتهى الكمال ، فكونه تعالى سميعا وبصيرا من جملة الصفات الداخلة تحت ظلال التأويل بالحمل على عموم قوله تعالى : ليس كمثله شيء فلم يقتضيا جارحتين .

ولقد كان تعقيب قوله ذلك بهما شبيها بتعقيب المسألة بمثالها .

التالي السابق


الخدمات العلمية