الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 291 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      سورة الأنفال

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الآية تدل على أن وجل القلوب عند سماع ذكر الله من علامات المؤمنين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جاء في آية أخرى ما يدل على خلاف ذلك وهي قوله : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ 13 \ 28 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فالمنافاة بين الطمأنينة ووجل القلوب ظاهرة .

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب عن هذا أن الطمأنينة تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد ، والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] ، وقوله تعالى : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا الآية [ 13 \ 8 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [ 23 \ 60 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الآية تدل بظاهرها على أن الاستجابة للرسول التي هي طاعته لا تجب إلا إذا دعانا لما يحيينا ، ونظيرها قوله تعالى : ولا يعصينك في معروف [ 60 \ 12 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجوب اتباعه مطلقا من غير قيد ، قوله : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، وقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ ص: 292 ] الآية [ 3 \ 31 ] . وقوله : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر أن وجه الجمع ، والله تعالى أعلم ، أن آيات الإطلاق مبينة أنه صلى الله عليه وسلم لا يدعونا إلا لما يحيينا من خيري الدنيا والآخرة ، فالشرط المذكور في قوله : إذا دعاكم ، متوفر في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لمكان عصمته ، كما دل عليه قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والحاصل أن آية : إذا دعاكم لما يحييكم ، مبينة أنه لا طاعة إلا لمن يدعو إلى ما يرضي الله ، وأن الآيات الأخر بينت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو أبدا إلا إلى ذلك صلوات الله وسلامه عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون هذه الآية الكريمة تدل على أن لكفار مكة أمانين يدفع الله عنهم العذاب بسببهما :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : كونه صلى الله عليه وسلم فيهم لأن الله لم يهلك أمة ونبيهم فيهم .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : استغفارهم الله وقوله تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام [ 8 ] ، يدل على خلاف ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب من أربعة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : وهو اختيار ابن جرير نقله عن قتادة والسدي ، وابن زيد أن الأمانين منتفيان ، فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج من بين أظهرهم مهاجرا واستغفارهم معدوم لإصرارهم على الكفر .

                                                                                                                                                                                                                                      فجملة الحال أريد بها أن العذاب لا ينزل بهم في حالة استغفارهم لو استغفروا ولا في حالة وجود نبيهم فيهم ، لكنه خرج من بين أظهرهم ، ولم يستغفروا لكفرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعلوم أن الحال قيد لعاملها وصف لصاحبها ، فالاستغفار مثلا قيد في نفي العذاب ، لكنهم لم يأتوا بالقيد ، فتقرير المعنى : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون لو استغفروا ، وبعد انتفاء الأمرين عذبهم بالقتل والأسر ، يوم بدر كما يشير [ ص: 293 ] إليه قوله تعالى : ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر [ 32 \ 21 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أن المراد بقوله : " يستغفرون " استغفار المؤمنين المستضعفين بمكة ، وعليه فالمعنى أنه بعد خروجه صلى الله عليه وسلم كان استغفار المؤمنين سببا لرفع العذاب الدنيوي عن الكفار المستعجلين للعذاب بقولهم : فأمطر علينا حجارة من السماء الآية [ 8 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا القول فقد أسند الاستغفار إلى مجموع أهل مكة الصادق بخصوص المؤمنين منهم ، ونظير الآية عليه قوله تعالى : فعقروا الناقة [ 7 \ 77 ] ، ومع أن العاقر واحد منهم بدليل قوله تعالى : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] ، وقوله تعالى : ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا [ 71 \ 15 - 16 ] ، أي جعل القمر في مجموعهن الصادق بخصوص السماء التي فيها القمر ، لأنه لم يجعل في كل سماء قمرا ، وقوله تعالى : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم [ 6 \ 130 ] ، أي من مجموعكم الصادق بخصوص الإنس على الأصح ، إذ ليس من الجن رسل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما تمثيل كثير من العلماء لإطلاق المجموع مرادا بعضه بقوله تعالى : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ 55 \ 22 ] ، زاعمين أن معنى قوله : " منهما " أي من مجموعهما الصادق بخصوص البحر الملح ، لأن العذب لا يخرج منه لؤلؤ ولا مرجان ، فهو قول باطل بنص القرآن العظيم .

                                                                                                                                                                                                                                      فقد صرح تعالى باستخراج اللؤلؤ والمرجان من البحرين كليهما حيث قال : وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها [ 35 \ 12 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فقوله تعالى : ومن كل ، نص صريح في إرادة العذب والملح معا ، وقوله : حلية تلبسونها هي اللؤلؤ والمرجان .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا القول فالعذاب الدنيوي يدفعه الله عنهم باستغفار المؤمنين الكائنين بين أظهرهم ، وقوله تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله [ 8 ] . أي بعد خروج المؤمنين الذين كان استغفارهم سببا لدفع العذاب الدنيوي ، فبعد خروجهم عذب الله أهل [ ص: 294 ] مكة في الدنيا بأن سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم حتى فتح مكة ، ويدل لكونه تعالى يدفع العذاب الدنيوي عن الكفار بسبب وجود المسلمين بين أظهرهم ما وقع في صلح الحديبية كما بينه تعالى بقوله : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما [ 48 \ 25 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فقوله : لو تزيلوا أي لو تزيل الكفار من المسلمين لعذبنا الكفار بتسليط المسلمين عليهم ، ولكنا رفعنا عن الكفار هذا العذاب الدنيوي لعدم تميزهم من المؤمنين ، كما بينه بقوله : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل ابن جرير هذا القول عن ابن عباس والضحاك وأبي مالك وابن أبزى ، وحاصل هذا القول أن كفار مكة لما قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة الآية [ 8 ] . أنزل الله قوله : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم بقيت طائفة من المسلمين بمكة يستغفرون الله ويعبدونه ، فأنزل الله : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ، فلما خرجت بقية المسلمين من مكة أنزل الله تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله [ 8 ] ، أي : أي شيء ثبت لهم يدفع عنهم الله ، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من بين أظهرهم ، فالآية على هذا كقوله : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم [ 9 \ 14 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثالث : أن المراد بقوله : وهم يستغفرون كفار مكة ، وعليه فوجه الجميع أن الله تعالى يرد عنهم العذاب الدنيوي بسبب استغفارهم ، أما عذاب الآخرة فهو واقع بهم لا محالة فقوله : وما كان الله ليعذبهم ، أي في الدنيا في حالة استغفارهم ، وقوله : وما لهم ألا يعذبهم الله أي في الآخرة ، وقد كانوا كفارا في الدنيا . ونقل ابن جرير هذا القول عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا القول فعمل الكافر ينفعه في الدنيا ، كما فسر به جماعة قوله تعالى : ووجد الله عنده فوفاه حسابه [ 24 \ 39 ] ، أي أثابه من عمله الطيب في الدنيا ، وهو صريح قوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها الآية [ 11 15 ] ، وقوله تعالى أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة [ 9 ] ، [ ص: 295 ] وقوله : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ونحو ذلك من الآيات يدل على بطلان عمل الكافر من أصله ، كما أوضحه تعالى بقوله : حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة [ 2 \ 217 ] ، فجعل كلتا الدارين ظرفا لبطلان أعمالهم واضمحلالها ، وسيأتي إن شاء الله تحقيق هذا المقام في سورة " هود " .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الرابع : أن معنى قوله : وهم يستغفرون أي يسلمون ، أي : وما كان الله معذبهم ، وقد سبق في علمه أن منهم من يسلم ويستغفر الله من كفره ، وعلى هذا القول فقوله : وما لهم ألا يعذبهم الله ، في الذين سبقت لهم الشقاوة كأبي جهل وأصحابه الذين عذبوا بالقتل يوم بدر .

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل ابن جرير معنى هذا القول عن عكرمة ومجاهد ، وأما ما رواه ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري من أن قوله : وما لهم ألا يعذبهم الله ناسخ لقوله : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فبطلانه ظاهر ، لأن قوله تعالى : وما كان الله معذبهم الآية ، خبر من الله بعدم تعذيبه لهم في حالة استغفارهم ، والخبر لا يجوز نسخه شرعا بإجماع المسلمين ، وأظهر هذه الأقوال الأولان .

                                                                                                                                                                                                                                      منها قوله تعالى : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين الآية [ 8 \ 65 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ظاهر هذه الآية أن الواحد من المسلمين يجب عليه مصابرة عشرة من الكفار ، وقد ذكر تعالى ما يدل على خلاف ذلك بقوله : فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين الآية [ 8 \ 66 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب عن هذا ، أن الأول منسوخ بالثاني ، كما دل عليه قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم الآية [ 8 \ 66 ] ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا .

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الآية الكريمة تدل على أن من لم يهاجر لا ولاية بينه وبين المؤمنين حتى يهاجر ، وقد جاءت آية أخرى يفهم منها خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى [ ص: 296 ] والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ 9 \ 71 ] . فإنها تدل على ثبوت الولاية بين المؤمنين وظاهرها العموم .

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أن الولاية المنفية في قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء هي ولاية الميراث ، أي ما لكم شيء من ميراثهم حتى يهاجروا لأن المهاجرين والأنصار كانوا يتوارثون بالمؤاخاة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم ، فمن مات من المهاجرين ورثه أخوه الأنصاري دون أخيه المؤمن ، الذي لم يهاجر ، حتى نسخ ذلك بقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض الآية [ 8 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا مروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ، كما نقله عنهم أبو حيان وابن جرير ، والولاية في قوله : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، ولاية النصر والمؤازرة والتعاون والتعاضد ، لأن المسلمين كالبنيان يشد بعضه بعضا ، وكالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الولاية لم تقصد بالنفي في قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء بدليل تصريحه تعالى بذلك في قوله بعده يليه : وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر الآية [ 8 ] ، فأثبت ولاية النصر بينهم بعد قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء يدل على أن الولاية المنفية غير ولاية النصر ، فظهر أن الولاية المنفية غير المثبتة ، فارتفع الإشكال .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : هو ما اقتصر عليه ابن كثير مستدلا عليه بحديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم أن معنى قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء يعني لا نصيب لكم في المغانم ولا في خمسها إلا فيما حضرتم فيه القتال ، وعليه فلا إشكال في الآية ، ولا مانع من تناول الآية للجميع ، فيكون المراد بها نفي الميراث بينهم ، ونفي القسم لهم في الغنائم والخمس .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية