الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 57 ] فصل

في بيان أن تيسر القرآن للذكر ينافي حمله على التأويل

المخالفات لحقيقته وظاهره

أنزل الله الكتاب شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ، ولذلك كانت معانيه أشرف المعاني وألفاظه أفصح الألفاظ وأبينها وأعظمها مطابقة لمعانيها المرادة منها ، كما وصفه الله تعالى بقوله : ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) فالحق هو المعنى والمدلول الذي تضمنه الكتاب ، والتفسير الأحسن هو الألفاظ الدالة على ذلك الحق ، فهو تفسيره وبيانه ، والتفسير أصله من البيان والظهور ، ويلاقيه في الاشتقاق الأكبر الإسفار ، ومنه : أسفر الفجر إذا أضاء ووضح ، ومنه السفر لبروز المسافر من البيوت ، ومنه السفر الذي يتضمن إظهار ما فيها من العلم ، فلا بد أن يكون التفسير مطابقا للمفسر مفهما له .

ولا تجد كلاما أحسن تفسيرا ولا أتم بيانا من كلام الله سبحانه ، ولهذا سماه الله بيانا ، وأخبر أنه يسره للذكر ويسر ألفاظه للحفظ ومعانيه للفهم ، وأوامره ونواهيه للامتثال ، ومعلوم أنه لو كان بالألفاظ لا يفهمها المخاطب لم يكن ميسرا له بل كان معسرا عليه ، وإذا أريد من المخاطب أن يفهم من ألفاظه ما لا يدل عليه من المعاني ، أو يدل على خلافه فهذا من أشد التعسير ، فإنه لا شيء أعسر على الأمة من أن يراد منهم أن يفهموا كونه سبحانه لا داخلا في العالم ولا خارجه ، ولا متصلا به ، ولا منفصلا عنه ، ولا مباينا له ، ولا محايثا له ، ولا يرى بالأبصار عيانا ، ولا له يد ولا وجه من قوله : ( قل هو الله أحد ) ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تفضلوني على يونس بن متى " ومن قوله : ( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ) وأن يجهدوا أنفسهم ويكابدوا أعظم المشقة في تطلب أنواع الاستعارات وضروب المجازات ووحشي اللغات ، ليحملوا عليها آيات الصفات وأخبارها ويقول : يا عبادي اعلموا أنى أردت منكم أن تعلموا أني لست فوق العالم ، [ ص: 58 ] ولا تحته ، ولا فوق العرش ولا ترفع الأيدي إلي ولا يعرج إلي شيء ولا ينزل من عندي شيء من قولي : ( الرحمن على العرش استوى ) ومن قولي : ( يخافون ربهم من فوقهم ) ومن قولي : ( تعرج الملائكة والروح إليه ) ومن قولي : ( بل رفعه الله إليه ) ومن قولي : ( رفيع الدرجات ذو العرش ) ومن قولي : ( وهو العلي العظيم ) وأن تفهموا أنه ليس لي يدان من قولي : ( لما خلقت بيدي ) ولا عين من قولي : ( ولتصنع على عيني ) فإنكم متى فهمتم من هذه الألفاظ حقائقها وظواهرها فهمتم خلاف مرادي منكم أن تفهموا منها ما يدل على خلاف حقائقها وظواهرها .

فأي تيسير يكون هناك ، وأي تعقيد وتعسير لم يحصل بذلك ؟ ومعلوم أن خطاب الرجل بما لا يفهمه إلا بترجمة أيسر عليه من خطابه بما كلف أن يفهم منه خلاف موضوعه ، فتيسير القرآن مناف لطريقة النفاة المحرفين أعظم منافاة ، ولهذا لما عسر عليهم أن يفهموا منه النفي عولوا على الشبه الخيالية .

التالي السابق


الخدمات العلمية