الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
" قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون " .

جاءت جملة قل أفرأيتم على أسلوب حكاية المقاولة والمجاوبة لكلامهم المحكي بجملة ليقولن الله ولذلك لم تعطف الثانية بالواو ولا بالفاء ، والمعنى : ليقولن الله فقل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إلخ . والفاء من ( أفرأيتم ) لتفريع الاستفهام الإنكاري على جوابهم تفريعا يفيد محاجتهم على لازم اعترافهم بأن الله هو خالق السماوات والأرض كما في قوله تعالى قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ، وهذا تفريع الإلزام على الإقرار ، والنتيجة على الدليل فإنهم لما أقروا بأنه خالق السماوات والأرض يلزمهم أن يقروا بأنه المتصرف فيما تحويه السماوات والأرض . والرؤية قلبية ، أي أفظننتم .

و ما تدعون من دون الله مفعول ( رأيتم ) الأول والمفعول الثاني محذوف سد مسده جواب الشرط المعترض بعد المفعول الأول على قاعدة اللغة العربية عند اجتماع مبتدأ وشرط أن يجري ما بعدهما على ما يناسب جملة الشرط لأن المفعول الأول لأفعال القلوب في معنى المبتدأ .

[ ص: 17 ] وجملة هل هن كاشفات ضره جواب ( إن ) ، واستعمال العرب إذا صدر الجواب بأداة استفهام غير الهمزة يجوز تجرده عن الفاء الرابطة للجواب كقوله تعالى قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون ، ويجوز اقترانه بالفاء كقوله قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله . فأما المصدر بالهمزة فلا يجوز اقترانه بالفاء كقوله أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم بأن الله يرى .

وجواب الشرط دليل على المفعول الثاني لفعل الرؤية . والتقدير : أرأيتم ما تدعون من دون الله كاشفات ضره .

والهمزة للاستفهام وهو إنكاري إنكارا لهذا الظن .

وجيء بحرف ( هل ) في جواب الشرط وهي للاستفهام الإنكاري أيضا تأكيدا لما أفادته همزة الاستفهام مع ما في ( هل ) من إفادة التحقيق . وضمير ( هن ) عائد إلى ( ما ) الموصولة وكذلك الضمائر المؤنثة الواردة بعده ظاهرة ومستترة ، إما لأن ماصدق ( ما ) الموصولة هنا أحجار غير عاقلة وجمع غير العقلاء يجري على اعتبار التأنيث ، ولأن ذلك يصير الكلام من قبيل الكلام الموجه بأن آلهتهم كالإناث لا تقدر على النصر .

والكاشفات : المزيلات ، فالكشف مستعار للإزالة بتشبيه المعقول وهو الضر بشيء مستتر ، وتشبيه إزالته بكشف الشيء المستور ، أي إخراجه ، وهي مكنية والكشف استعارة تخييلية .

والإمساك أيضا مكنية بتشبيه الرحمة بما يسعف به ، وتشبيه التعرض لحصولها بإمساك صاحب المتاع متاعه عن طالبيه .

وعدل عن تعدية فعل الإرادة للضر والرحمة ، إلى تعديته لضمير المتكلم ذات المضرور والمرحوم مع أن متعلق الإرادات المعاني دون الذوات ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال : إن أراد ضري أو أراد رحمتي فحق فعل الإرادة إذا قصد تعديته إلى شيئين أن يكون المراد هو المفعول ، وأن يكون ما معه معدى إليه بحرف الجر ، نحو أردت خيرا لزيد ، أو أردت به خيرا ، فإذا عدل عن ذلك قصد به [ ص: 18 ] الاهتمام بالمراد به لإيصال المراد إليه حتى كأن ذاته هي المراد لمن يريد إيصال شيء إليه ، وهذا من تعليق الأحكام بالذوات . والمراد أحوال الذوات مثل حرمت عليكم الميتة أي أكلها . ونظم التركيب : إن أرادني وأنا متلبس بضر منه أو برحمة منه ، قال عمرو بن شاس :


أرادت عرارا بالهوان ومن يرد عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم

وإنما فرض إرادة الضر وإرادة الرحمة في نفسه دون أن يقول : إن أرادكم ، لأن الكلام موجه إلى ما خوفوه من ضر أصنامهم إياه .

وقرأ الجمهور كاشفات ضره و ممسكات رحمته بإضافة الوصفين إلى الاسمين . وقرأ أبو عمرو ويعقوب بتنوين الوصفين ونصب " ضره " و " رحمته " وهو اختلاف في لفظ تعلق الوصف بمعموله والمعنى واحد .

ولما ألقمهم الله بهذه الحجة الحجر وقطعهم فلا يحيروا ببنت شفة أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ، وإنما أعيد الأمر بالقول ولم ينتظم حسبي الله في جملة الأمر الأول ، لأن هذا المأمور بأن يقوله ليس المقصود توجيهه إلى المشركين فإن فيما سبقه مقنعا من قلة الاكتراث بأصنامهم ، وإنما المقصود أن يكون هذا القول شعار النبيء صلى الله عليه وسلم في جميع شئونه ، وفيه حظ للمؤمنين معه حاصل من قولهعليه يتوكل المتوكلون قال تعالى " يا أيها النبيء حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين " ، فإعادة فعل قل للتنبيه على استقلال هذا الغرض عن الغرض الذي قبله .

والحسب : الكافي . وتقدم في قوله تعالى وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل في آل عمران .

وحذف المتعلق في هذه الجملة لعموم المتعلقات ، أي حسبي الله من كل شيء وفي كل حال .

والمراد بقوله اعتقاده ، ثم تذكره ، ثم الإعلان به لتعليم المسلمين وإغاظة المشركين .

[ ص: 19 ] والتوكل : تفويض أمور المفوض إلى من يكفيه إياه ، وتقدم في قوله فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين في سورة آل عمران .

وجملة عليه يتوكل المتوكلون يجوز أن تكون مما أمر بأن يقوله تذكرا من النبيء صلى الله عليه وسلم وتعليما للمسلمين فتكون الجملة تذييلا للتي قبلها لأنها أعم منها باعتبار القائلين لأن حسبي الله يئول إلى معنى : توكلت على الله ، أي حسبي أنا وحسب كل متوكل ، أي كل مؤمن يعرف الله حق معرفته ويعتمد على كفايته دون غيره ، فتعريف " المتوكلون " للعموم العرفي ، أي المتوكلون الحقيقيون إذ لا عبرة بغيرهم .

ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى خاطب به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بأن يقوله فتكون الجملة تعليلا للأمر بقول حسبي الله ، أي اجعل الله حسبك ، لأن أهل التوكل يتوكلون على الله دون غيره وهم الرسل والصالحون وإذ قد كنت من رفيقهم فكن مثلهم في ذلك على نحو قوله تعالى أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ، وتقديم المجرور على يتوكل لإفادة الاختصاص لأن أهل التوكل الحقيقيين لا يتوكلون إلا على الله تعالى ، وذلك تعريض بالمشركين إذا اعتمدوا في أمورهم على أصنامهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية