الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ( 75 ) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ( 76 ) أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ( 77 ) ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ( 78 ) فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ( 79 ) وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون ( 80 ) بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( 81 ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ( 82 ) وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ( 83 ) وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ( 84 ) ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة .يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ( 85 ) أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ( 86 ) ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ( 87 ) وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ( 88 ) ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم [ ص: 82 ] وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ( 89 ) بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين ( 90 ) وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ( 91 ) ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ( 92 ) وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ( 93 ) قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ( 94 ) ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ( 95 ) ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف .سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون ( 96 ) قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ( 97 ) من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ( 98 ) ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ( 99 ) أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ( 100 ) ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ( 101 ) واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ( 102 ) ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ( 103 )

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 83 ] انقضى المقطع السابق في السورة في تذكير بني إسرائيل بأنعم الله عليهم وجحودهم لهذا الإنعام المتواصل; وباستعراض مشاهد الإنعام والجحود، بعضها باختصار وبعضها بتطويل; وانتهى هذا الاستعراض بتقرير ما انتهت إليه قلوبهم في نهاية المطاف من قسوة وجفاف وجدب، أشد من قسوة الحجارة وجفافها وجدبها.

                                                                                                                                                                                                                                      فالأن يأخذ السياق في الاتجاه بالخطاب إلى الجماعة المسلمة يحدثها عن بني إسرائيل ، ويبصرها بأساليبهم ووسائلهم في الكيد والفتنة ; ويحذرها كيدهم ومكرهم على ضوء تاريخهم وجبلتهم، فلا تنخدع بأقوالهم ودعاويهم ووسائلهم الماكرة في الفتنة والتضليل. ويدل طول هذا الحديث، وتنوع أساليبه على ضخامة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من الكيد المنصوب لها والمرصود لدينها من أولئك اليهود !.

                                                                                                                                                                                                                                      وبين آن وآخر يلتفت السياق إلى بني إسرائيل ليواجههم - على مشهد من المسلمين - بما أخذ عليهم من المواثيق، وبما نقضوا من هذه المواثيق; وبما وقع منهم من انحرافات ونكول عن العهد وتكذيب بأنبيائهم، وقتلهم لهؤلاء الأنبياء الذين لا يطاوعونهم على هواهم، ومن مخالفة لشريعتهم، ومن التوائهم وجدالهم بالباطل، وتحريفهم لما بين أيديهم من النصوص.

                                                                                                                                                                                                                                      يستعرض جدالهم مع الجماعة المسلمة وحججهم ودعاويهم الباطلة، ويلقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يفضح دعاويهم، ويفند حججهم، ويكشف زيف ادعاءاتهم، ويرد عليهم كيدهم بالحق الواضح الصريح:

                                                                                                                                                                                                                                      فلقد زعموا أن لن تمسهم النار إلا أياما معدودة بحكم ما لهم من المكانة الخاصة عند الله! فلقن الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليهم قولهم هذا: قل: أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      وكانوا إذا دعوا إلى الإسلام قالوا: نؤمن بما أنزل علينا، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم .. فلقن الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يفضح دعواهم أنهم يؤمنون بما أنزل إليهم: قل: فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين؟ ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون؟ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا. قالوا: سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم. قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين! ..

                                                                                                                                                                                                                                      وكانوا يدعون أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس. فلقن الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتحداهم بدعوتهم إلى المباهلة أي أن يجتمع الفريقان: هم والمسلمون، ثم يدعون الله أن يميت الكاذب: قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين .. وقرر أنهم لن يتمنوه أبدا - وهذا ما حدث. فقد نكصوا عن المباهلة لعلمهم أنهم كاذبون فيما يدعون!.

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا يمضي السياق في هذه المواجهة، وهذا الكشف، وهذا التوجيه.. ومن شأن هذه الخطة أن تضعف - أو تبطل - كيد اليهود في وسط الصف المسلم; وأن تكشف دسائسهم وأحابيلهم; وأن تدرك الجماعة المسلمة طريقة اليهود في العمل والكيد والادعاء، على ضوء ما وقع منهم في تاريخهم القديم.

                                                                                                                                                                                                                                      وما تزال الأمة المسلمة تعاني من دسائس اليهود ومكرهم ما عاناه أسلافها من هذا المكر ومن تلك الدسائس; غير أن الأمة المسلمة لا تنتفع - مع الأسف - بتلك التوجيهات القرآنية، وبهذا الهدي الإلهي، الذي انتفع به أسلافها، فغلبوا كيد اليهود ومكرهم في المدينة ، والدين ناشئ، والجماعة المسلمة وليدة.. وما يزال اليهود - بلؤمهم ومكرهم - يضللون هذه الأمة عن دينها ، ويصرفونها عن قرآنها، كي لا تأخذ منه أسلحتها الماضية، وعدتها الواقية. وهم آمنون ما انصرفت هذه الأمة عن موارد قوتها الحقيقية، وينابيع معرفتها الصافية.. وكل [ ص: 84 ] من يصرف هذه الأمة عن دينها وعن قرآنها فإنما هو من عملاء يهود ; سواء عرف أم لم يعرف، أراد أم لم يرد، فسيظل اليهود في مأمن من هذه الأمة ما دامت مصروفة عن الحقيقة الواحدة المفردة التي تستمد منها وجودها وقوتها وغلبتها - حقيقة العقيدة الإيمانية والمنهج الإيماني والشريعة الإيمانية - فهذا هو الطريق. وهذه هي معالم الطريق:

                                                                                                                                                                                                                                      أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله. ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟ أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      كانت صورة الجفاف والقسوة والجدب هي التي صور الله بها قلوب بني إسرائيل في نهاية الدرس الماضي.

                                                                                                                                                                                                                                      صورة الحجارة الصلدة التي لا تنض منها قطرة، ولا يلين لها ممس، ولا تنبض فيها حياة.. وهي صورة توحي باليأس من هذه الطبيعة الجاسية الجامدة الخاوية.. وفي ظل هذا التصوير، وظل هذا الإيحاء، يلتفت السياق إلى المؤمنين، الذين يطمعون في هداية بني إسرائيل ، ويحاولون أن يبثوا في قلوبهم الإيمان، وأن يفيضوا عليها النور.. يلتفت إلى أولئك المؤمنين بسؤال يوحي باليأس من المحاولة، وبالقنوط من الطمع:

                                                                                                                                                                                                                                      أفتطمعون أن يؤمنوا لكم؟ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      ألا أنه لا مطمع ولا رجاء في أن يؤمن أمثال هؤلاء. فللإيمان طبيعة أخرى، واستعداد آخر إن الطبيعة المؤمنة سمحة هينة لينة ، مفتحة المنافذ للأضواء، مستعدة للاتصال بالنبع الأزلي الخالد بما فيها من نداوة ولين وصفاء. وبما فيها من حساسية وتحرج وتقوى. هذه التقوى التي تمنعها أن تسمع كلام الله ثم تحرفه من بعد تعقله. تحرفه عن علم وإصرار. فالطبيعة المؤمنة طبيعة مستقيمة، تتحرج من هذا التحريف والالتواء.

                                                                                                                                                                                                                                      والفريق المشار إليه هنا هو أعلم اليهود وأعرفهم بالحقيقة المنزلة عليهم في كتابهم هم الأحبار والربانيون، الذين يسمعون كلام الله المنزل على نبيهم موسى في التوراة ثم يحرفونه عن مواضعه، ويؤولونه التأويلات البعيدة التي تخرج به عن دائرته. لا عن جهل بحقيقة مواضعه، ولكن عن تعمد للتحريف، وعلم بهذا التحريف.

                                                                                                                                                                                                                                      يدفعهم الهوى، وتقودهم المصلحة، ويحدوهم الغرض المريض! فمن باب أولى ينحرفون عن الحق الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد انحرفوا عن الحق الذي جاء به نبيهم موسى - عليه السلام - ومن باب أولى - وهذا خراب ذممهم، وهذا إصرارهم على الباطل وهم يعلمون بطلانه - أن يعارضوا دعوة الإسلام، ويروغوا منها ويختلقوا عليها الأكاذيب!.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، وهم يضيفون إلى خراب الذمة، وكتمان الحق، وتحريف الكلم عن مواضعه..

                                                                                                                                                                                                                                      الرياء والنفاق والخداع والمراوغة؟

                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان بعضهم إذا لقوا المؤمنين قالوا: آمنا.. أي آمنا بأن محمدا مرسل، بحكم ما عندهم في التوراة من البشارة به، وبحكم أنهم كانوا ينتظرون بعثته، ويطلبون أن ينصرهم الله به على من عداهم. وهو معنى قوله: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا .. ولكن: " إذا خلا بعضهم إلى بعض " .. عاتبوهم [ ص: 85 ] على ما أفضوا للمسلمين من صحة رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن معرفتهم بحقيقة بعثته من كتابهم، فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم .. فتكون لهم الحجة عليكم؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا تدركهم طبيعتهم المحجبة عن معرفة صفة الله وحقيقة علمه; فيتصورون أن الله لا يأخذ عليهم الحجة إلا أن يقولوها بأفواههم للمسلمين! أما إذا كتموا وسكتوا فلن تكون لله عليهم حجة! .. وأعجب العجب أن يقول بعضهم لبعض في هذا: أفلا تعقلون؟ .. فيا للسخرية من العقل والتعقل الذي يتحدثون عنه مثل هذا الحديث!!.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم يعجب السياق من تصورهم هذا قبل أن يمضي في استعراض ما يقولون وما يفعلون:

                                                                                                                                                                                                                                      أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية