الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      الطائع لله

                                                                                      الخليفة أبو بكر عبد الكريم بن المطيع لله الفضل بن المقتدر جعفر بن المعتضد العباسي ، وأمه أم ولد .

                                                                                      [ ص: 119 ] نزل له أبوه -لما فلج- عن الخلافة في ذي القعدة سنة ثلاث وستين ، وكان الحل والعقد للملك عز الدولة ، وابن عمه عضد الدولة .

                                                                                      وكان أشقر مربوعا كبير الأنف .

                                                                                      قال ابن الجوزي : لما استخلف ركب وعليه البردة وبين يديه سبكتكين الحاجب ، وخلع من الغد على سبكتكين خلع السلطنة ، وعقد له اللواء ، ولقبه نصر الدولة .

                                                                                      ولما كان عيد الأضحى ركب الطائع إلى المصلى وعليه قباء وعمامة ، فخطب خطبة خفيفة بعد أن صلى بالناس ، فتعرض عز الدولة لإقطاع سبكتكين ، فجمع سبكتكين الأتراك فالتقوا ، فانتصر سبكتكين ، وقامت معه العامة .

                                                                                      وكتب عز الدولة يستنجد بعضد الدولة ، فتوانى ، وصار الناس حزبين ، فكانت السنة والديلم ينادون بشعار سبكتكين ، والشيعة ينادون بشعار عز الدولة ، ووقع القتال ، وسفكت الدماء ، وأحرق الكرخ .

                                                                                      وكان الطائع قويا في بدنه ، زعر الأخلاق ، وقد قطعت خطبته في العام الذي تولى خمسين يوما من بغداد ، فكانت الخطباء لا يدعون لإمام حتى أعيدت في رجب وقدم عضد الدولة فأعجبه ملك العراق ، واستمال الجند ، فشغبوا على ابن عمه عز الدولة ، فأغلق عز الدولة بابه ، وكتب عضد الدولة عن الطائع إلى الآفاق بتوليته ، ثم اضطرب أمره ، ولم يبق بيده غير بغداد ، فنفذ إلى أبيه ركن الدولة يعلمه أنه قد خاطر بنفسه وجنده ، وقد [ ص: 120 ] هذب مملكة العراق ، ورد الطائع إلى داره ، وأن عز الدولة عاص ، فغضب أبوه ، وقال لرسوله : قل له : خرجت في نصرة ابن أخي ، أو في أخذ ملكه ؟ !

                                                                                      فأفرج حينئذ عن عز الدولة ، وذهب إلى فارس وتزوج الطائع ببنت عز الدولة الست شهناز على مائة ألف دينار وعظم القحط ، حتى أبيع الكر بمائة وسبعين دينارا .

                                                                                      وفي هذا الوقت كانت الحرب متصلة بين جوهر المعزي وبين هفتكين بالشام ، حتى جرت بينهما اثنتا عشرة وقعة ، وجرت وقعة بين عز الدولة وعضد الدولة ، أسر فيها مملوك أمرد لعز الدولة فجن عليه ، وأخذ في البكاء ، وترك الأكل ، وتذلل في طلبه ، فصار ضحكة ، وبذل جاريتين عوادتين في فدائه .

                                                                                      وفي سنة خمس وستين حجت جميلة بنت صاحب الموصل ، فكان معها أربعمائة جمل ، وعدة محامل لا يدرى في أيها هي ، وأعتقت خمسمائة [ ص: 121 ] نفس ، وخلعت خمسين ألف ثوب ، وقيل : كان معها أربعمائة محمل .

                                                                                      ثم في الآخر استولى عضد الدولة على أموالها وقلاعها ، وافتقرت لكونه خطبها ، فأبت ، وآل بها الحال إلى أن هتكها وألزمها أن تختلف مع الخواطئ لتحصل ما تؤديه ، فرمت بنفسها في دجلة .

                                                                                      وفي سنة سبع وستين أقبل عضد الدولة في جيوشه ، وأخذ بغداد ، وتلقاه الطائع ، وعملت قباب الزينة ، ثم خرج فعمل المصاف مع عز الدولة ، فأسر عز الدولة ، ثم قتله ، ونفذ إلى الطائع ألف ألف درهم ، وخمسين ألف دينار ، وخيلا وبغالا ، ومسكا وعنبرا .

                                                                                      وكان الغرق العظيم ببغداد ، وبلغ الماء أحدا وعشرين ذراعا ، وغرق خلق .

                                                                                      وتمكن عضد الدولة ، ولقب أيضا تاج الملة وضربت له النوبة في ثلاثة أوقات وعلا سلطانه علوا لا مزيد عليه ، ومع ذلك الارتقاء فكان يخضع للطائع ، وجاءه رسول العزيز صاحب مصر ، فراسله بتودد وطلب من الطائع أن يزيد في ألقابه ، فجلس له الطائع وحوله مائة بالسيوف [ ص: 122 ] والزينة وبين يديه المصحف العثماني ، وعلى كتفه البردة وبيده القضيب ، وهو متقلد السيف وأسبلت الستارة ، ودخل الترك والديلم بلا سلاح ، ثم أذن لعضد الدولة ، ورفعت له الستارة ، فقبل الأرض ، قال : فارتاع زياد القائد ، وقال بالفارسية : أهذا هو الله ؟ فقيل له : بل خليفة الله في أرضه .

                                                                                      ومشى عضد الدولة ، وقبل الأرض مرات سبعا ، فقال الطائع لخادمه : استدنه . فصعد ، وقبل الأرض مرتين ، فقال : ادن إلي . فدنا حتى قبل رجله ، فثنى الطائع يده عليه ، وأمره فجلس على كرسي بعد الامتناع ، حتى قال : أقسمت لتجلسن . ثم قال : ما كان أشوقنا إليك ، وأتوقنا إلى مفاوضتك . فقال : عذري معلوم . قال : نيتك موثوق بها ، فأومأ برأسه ، فقال : قد رأيت أن أفوض إليك ما وكله الله إلي من أمور الرعية في شرق الأرض وغربها سوى خاصتي وأسبابي ، فتولى ذلك مستجيرا بالله . قال : يعينني الله على طاعة مولانا أمير المؤمنين وخدمته ، وأريد كبار القواد أن يسمعوا لفظك .

                                                                                      قال الطائع : هاتوا الحسين بن موسى ، وابن معروف ، وابن أم شيبان . فقدموا ، فأعاد الطائع قوله بالتفويض ، ثم ألبس الخلع والتاج ، فأومأ ليقبل الأرض ، فلم يطق .

                                                                                      فقال الطائع : حسبك . وعقد له لواءين بيده ، ثم قال : يقرأ كتابه . فقرئ ، فقال الطائع : خار الله لنا ولك وللمسلمين ، آمرك بما أمرك الله به ، وأنهاك عما نهاك الله عنه ، وأبرأ إلى الله مما سوى ذلك ، انهض على اسم الله . ثم أعطاه بيده سيفا ثانيا غير سيف الخلعة ، وخرج من باب الخاصة ، وشق البلد .

                                                                                      وعمل أبو إسحاق الصابئ قصيدته ، فمنها : [ ص: 123 ]

                                                                                      يا عضد الدولة الذي علقت يداه من فخره بأعرقه


                                                                                      يفتخر النعل تحت أخمصه     فكيف بالتاج فوق مفرقه ؟

                                                                                      ! وتزوج الطائع ببنت عضد الدولة ورد العضد من همذان إلى بغداد ، فتلقاه الخليفة ، ولم تجر بذلك عادة ، ولكن بعث يطلب ذلك ، فما وسع الطائع التأخر ، كان مفرط السطوة .

                                                                                      وبعث إليه العزيز كتابا أوله : من عبد الله أمير المؤمنين إلى عضد الدولة أبي شجاع مولى أمير المؤمنين : سلام عليك ، مضمون الرسالة الاستمالة مع ما يشافهه به الرسول ، فبعث إليه رسولا وكتابا فيه مودة واعتذار مجمل .

                                                                                      وأدير المارستان العضدي في سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة ، ثم مات هو في شوالها وقام ولده صمصام الدولة ، وكتم موته أربعة أشهر ، وجاء الخليفة فعزى ولده ، ولطم عليه في الأسواق أياما .

                                                                                      وفي سنة 376 اختلف عسكر العراق ، ومالوا إلى شرف الدولة شيرويه أخي صمصام الدولة ، فذل الصمصام وبادر إلى خدمة أخيه ، فاعتقله ثم أمر بكحله ، فمات شرف الدولة والمكحول في شهر من سنة 379 .

                                                                                      [ ص: 124 ] وكان شرف الدولة فيه عدل ، ووزر في أيامه أبو منصور محمد بن الحسن ، ومما قدم معه عشرون ألف ألف درهم ، وكان ذا رفق ودين ومن عدل شرف الدولة رده على السيد أبي الحسن محمد بن عمر أملاكه ، وكان مغلها في السنة أزيد من ألف ألف دينار .

                                                                                      وعظم الغلاء ببغداد ، حتى بيعت كارة الدقيق الخشكار بمائتين وأربعين درهما .

                                                                                      وفي هذا الحدود جاء بالبصرة سموم حارة فمات جماعة في الطرق وجاء " بفم الصلح " ريح خرقت دجلة حتى بانت أرضها فيما قيل ، وهدت في جامعها ، واحتملت زورقا فيه مواشي ، فطرحته بأرض جوخى فرأوه بعد أيام ، نسأل الله العافية .

                                                                                      ولما مات شرف الدولة جاء الطائع يعزي أخاه بهاء الدولة أبا نصر ، فقبل أبو نصر الأرض مرات ، وسلطنه الطائع بالطوق والسوارين والخلع السبع ، فأقر في وزارته أبا منصور المذكور ، ويعرف بابن [ ص: 125 ] صالحان .

                                                                                      وكان بهاء الدولة ذا هيبة ووقار وحزم ، وحاربه ابن صمصام الدولة الذي كحل .

                                                                                      وخربت البصرة والأهواز ، وعظمت الفتن ، وتواتر أخذ العملات ببغداد وتحاربت الشيعة والسنة مدة ، ثم وثبوا على الطائع لله في داره في تاسع عشر شعبان سنة 381 ، وسببه أن شيخ الشيعة ابن المعلم كان من خواص بهاء الدولة فحبس ، فجاء بهاء الدولة ، وقد جلس الطائع في الرواق متقلد السيف ، فقبل الأرض ، وجلس على كرسي ، فتقدم جماعة من أعوانه ، فجذبوا الطائع بحمائل سيفه ، ولفوه في كساء ، وأصعد في سفينته إلى دار المملكة ، وماج الناس ، وظن الجند أن القبض علىبهاء الدولة ، فوقع النهب ، وقبض على الرئيس علي بن حاجب النعمي وجماعة ، وصودروا ، واحتيط على الخزائن والخدم أيضا .

                                                                                      فكان الطائع هم بالقبض على ابن عمه القادر بالله وهو أمير ، فهرب إلى البطائح وانضم إلى مهذب الدولة وبقي معه عامين ، فأظهر [ ص: 126 ] بهاء الدولة أمر القادر ، وأنه أمير المؤمنين . ونودي بذلك ، وأشهد على الطائع بخلع نفسه ، وأنه سلم الخلافة إلى القادر بالله ، وشهد الكبراء بذلك ، ثم طلب القادر ، واستحثوه على القدوم ، واستبيحت دار الخلافة حتى نقض خشبها .

                                                                                      وكتب القادر : من عبد الله أمير المؤمنين القادر بالله إلى بهاء الدولة ، وضياء الملة أبي نصر بن عضد الدولة : سلام عليك ، أما بعد : أطال الله بقاءك ، وأدام عزك ، ورد كتابك بخلع العاصي المتلقب بالطائع لبوائقه وسوء نيته ، فقد أصبحت سيف أمير المؤمنين المبير .

                                                                                      ثم في السنة الآتية سلم الطائع المخلوع إلى القادر ، فأنزله في حجرة موكلا به ، وأحسن صيانته ، وكان المخلوع يطلب منه أمورا ضخمة ، وقدمت بين يديه شمعة قد استعملت فأنكر ذلك ، فأتوه بجديدة وبقي مكرما إلى أن توفي وما اتفق هذا الإكرام لخليفة مخلوع مثله .

                                                                                      وكانت دولته ثماني عشرة سنة وبقي بعد عزله أعواما إلى أن مات ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ، فصلى عليه القادر وكبر خمسا ، [ ص: 127 ] ورثاه الشريف الرضي بقصيدة .

                                                                                      وعاش ثلاثا وسبعين سنة ، رحمه الله .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية