الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      المتقي لله

                                                                                      الخليفة أبو إسحاق ، إبراهيم بن المقتدر بن المعتضد ، العباسي .

                                                                                      [ ص: 105 ] قال الصولي : مات الراضي ، فبعث بجكم من واسط إلى كاتبه أحمد بن علي الكوفي أن يجمع القضاة والأعيان ، ووزير الراضي سليمان بن الحسن ، ويشتوروا في إمام ، فبعث حسين بن الفضل بن المأمون إلى الكوفي بعشرة آلاف دينار ليشتريه ، ونفذ إليه أيضا بأربعين ألف دينار ليفرقها في الأمراء فلم ينفع ذلك ، وبايعوا إبراهيم ، وسنه أربع وثلاثون سنة ، وأمه اسمها خلوب ، وكان حسن الوجه ، معتدل الخلق بحمرة ، أشهل ، كث اللحية ، فصلى ركعتين ، وصعد على السرير ، ولم يغير شيئا ، ولا تسرى على جاريته .

                                                                                      وكان ذا صوم وتعبد ، ولم يشرب نبيذا ، ويقول : لا أريد نديما غير المصحف .

                                                                                      وأقر في الوزارة سليمان بن الحسن فكان مقهورا مع كاتب بجكم ، ثم بعد أيام سقطت القبة الخضراء ، وكانت تاج بغداد ومأثرة بني العباس ، بناها المنصور علو ثمانين ذراعا ، تحتها إيوان طوله عشرون ذراعا في عرضها ، فسقط رأسها من مطر ورعد شديد وكان القحط ببغداد ، ثم عزل المتقي وزيره بأحمد بن محمد بن ميمون .

                                                                                      وأقبل أبو عبد الله البريدي من البصرة ، يطلب الوزارة فوليها ومشى إليه ابن ميمون .

                                                                                      فكانت وزارة ابن ميمون شهرا ; لكن هرب البريدي بعد أربعة وعشرين يوما لما شغب الجند بطلب أرزاقهم ، فوزر القراريطي ثم عزل بعد شهر [ ص: 106 ] وأيام ، فوليها الكرخي ، وعزل بعد أيام ، وولى المتقي إمرة الأمراء كورتكين الديلمي . وقتل بجكم ، وكان قد استوطن واسطا ، والتزم بأن يحمل إلى الراضي في السنة ثمانمائة ألف دينار وعدل ، وكان إلى كثرة أمواله المنتهى فكان يخرجها في الصناديق ، ويخرج رجالا في صناديق على جمال إلى البر ، ثم يفتح عليهم فيحفرون ، ويدفن المال ، ويردهم إلى الصناديق فلا يعرفون الكنز ، ويقول : إنما أفعل هذا خوفا أن يحال بيني وبين داري ، فذهب ذلك بموته .

                                                                                      ثم حاربه أبو عبد الله البريدي ، وانتصر أبو عبد الله وخرج بجكم يتصيد ، وهناك أكراد ، فطعنه أسود برمح فقتله في رجب سنة 329 وذهب أصحابه : كورتكين وتوزون وغيرهما إلى الشام إلى محمد بن رائق .

                                                                                      وطلبه المتقي فسار من دمشق ، واستناب على الشام ، وكان قد تغلب عليها ، فاستناب أحمد بن مقاتل ، وجاء فقدمه المتقي وطوقه وسوره .

                                                                                      وخضع له محمد بن حمدان ونفذ إليه بمائة ألف دينار ، وخطب له بواسط وبالبصرة البريدي ، وكتب اسمه على أعلامه ، ثم اختلف ابن رائق وكورتكين وتحاربا أياما ، وقهره ابن رائق ، ثم ضعف واختفى ، وتمكن ابن رائق وأباد جماعة ، وأسر كورتكين في سنة ثلاثين وأبيع كر القمح [ ص: 107 ] بأزيد من مائتي دينار ، وأكلوا الجيف ، وخرجت الروم ، فعاثوا بأعمال حلب وفيها استوزر المتقي أبا عبد الله البريدي برأي ابن رائق ، ثم عزل بالقراريطي ، فذهب مغاضبا ، وجمع العساكر .

                                                                                      وفي جمادى الأولى ركب المتقي لله وولده أبو منصور ، وابن رائق ، والوزير القراريطي ، وبين أيديهم القراء والمصاحف لحرب البريدي ، ثم انحدر من الشماسية في دجلة ، وثقل كرسي الجسر ، فانخسف بخلق .

                                                                                      وأمر ابن رائق بلعنة البريدي على المنابر ، ثم أقبل أبو الحسين علي بن محمد البريدي أخو أبي عبد الله ، فهزم المتقي ، وابن رائق ، وكان معه خلق من الديلم والترك ، والقرامطة . ووقع النهب ببغداد ، وزحف ابن البريدي على الدار ، وعظم الخطب . وقتل جماعة بدار الخلافة ، وهرب المتقي وابنه ، وابن رائق إلى الموصل ، واختفى القراريطي الوزير .

                                                                                      وبعث ابن البريدي بكورتكين مقيدا إلى أخيه فأتلفه ، وحكم أبو الحسين ببغداد ، وتعثرت الرعية ، وهجوا ، وبلغ الكر أزيد من ثلاثمائة دينار ، وغرقت بغداد .

                                                                                      ثم فارقه توزون وراح إلى الموصل ، فقوي قلب ناصر الدولة ابن حمدان ، وعزم أن ينحدر إلى بغداد بالمتقي ، فتهيأ أبو الحسين بن البريدي ، وترددت الرسل بين ابن رائق وبين ابن حمدان ، فتحالفا ، فجاء ابن حمدان واجتمع به ، وحضر ابن المتقي فلما ركب ابن المتقي قدم فرس ابن رائق ليركب ، فتعلق به ابن حمدان ، وقال : تقيم عندنا اليوم نتحدث . فقال : كيف أتخلف عن ولد أمير المؤمنين ؟ فألح عليه حتى ارتاب ، وجذب كمه من [ ص: 108 ] يده فتخرق ، هذا ورجله في الركاب ، فشب به الفرس فوقع ، فصاح ابن حمدان بغلمانه : اقتلوه . فاعتورته السيوف ، فاضطرب أصحابه خارج المخيم ، ودفن وعفي أثره ، ونهبت أمواله فذكر رجل أنه وجد كيسا فيه ألف دينار ، وخاف من الجند ، قال : فرميته في قدر سكباج وحملتها على رأسي فسلمت .

                                                                                      وجاء ابن حمدان إلى المتقي ، وقال : إن ابن رائق هم بقتلي ، فقلده مكان ابن رائق ، ولقبه يومئذ ناصر الدولة ، ولقب أخاه سيف الدولة ، وعاد بهم ، فهرب أبو الحسين بن البريدي من بغداد وسار بدر الخرشني فولي دمشق .

                                                                                      ثم بعد شهر أرجف بمجيء ابن البريدي ، فانجفل الناس ، وخرج المتقي ليكون مع ناصر الدولة ، وتوجه سيف الدولة لمحاربة ابن البريدي ، فكانت بينهما ملحمة بقرب المدائن ، فاقتتلوا يومين ، فانكسر سيف الدولة أولا ، فرد ناصر الدولة الفل ، ثم كانت الهزيمة على ابن البريدي ورد في ويل إلى واسط .

                                                                                      وتبعه سيف الدولة فانهزم إلى البصرة ومن ثم تزوج أبو منصور إسحاق بن المتقي ببنت ناصر الدولة على مائتي ألف دينار ، وتمكن ناصر الدولة ، وأخذ ضياع المتقي ، وصادر الدواوين ، وظلم .

                                                                                      ثم بلغه هروب أخيه سيف الدولة من واسط ، فخاف ناصر الدولة ، ورد إلى الموصل ونهبت داره واستوزر علي بن أبي علي بن مقلة ، وأقبل توزون من واسط فخلع عليه المتقي ، ولقبه أمير الأمراء ، ولكن ما تم [ ص: 109 ] الود . فعاد توزون إلى واسط وصادر المتقي وزيره ، وبعث بخلع إلى أحمد بن بويه ، واستوزر غير واحد ، ويعزلهم .

                                                                                      وصغر أمر الوزارة ، ووهنت الخلافة العباسية ، وبلغ ذلك الناصر لدين الله المرواني ، صاحب الأندلس فقال : أنا أولى بإمرة المؤمنين . فتلقب بذلك . وكان قبل ذلك ، يقال له : الأمير ، كآبائه .

                                                                                      وسار المتقي لله إلى تكريت ، وتفلل أصحابه ، وقدم توزون فاستولى على بغداد ، فأقبل ناصر الدولة في جمع كبير من الأعراب والأكراد ، فالتقى توزون بعكبرا واقتتلوا أياما ، ثم انهزم بنو حمدان ، والمتقي إلى الموصل ، ثم التقوا ثانيا على حربه فانهزم سيف الدولة والخليفة إلى نصيبين وتبعهم توزون . وأما أحمد بن بويه فإنه أقبل ونزل بواسط يريد بغداد ورغب توزون في الصلح .

                                                                                      وفي سنة 332 قتل أبو عبد الله بن البريدي أخاه أبا يوسف ، ومات بعده بيسير وكتب المتقي إلى صاحب مصر الإخشيد ليحضر إليه ، فأقبل [ ص: 110 ] إليه فوجده بالرقة . وبان للمتقي من بني حمدان الضجر ، فراسل توزون ، واستوثق منه فعلم بذلك الإخشيد ، فقال للمتقي : أنا عبدك ، وقد عرفت غدر الأتراك ، فالله الله في نفسك ، سر معي إلى الشام ومصر ؛ لتأمن . فلم يطعه ، فرد إلى بلاده .

                                                                                      وقتل ببغداد حمدي اللص الذي ضمن اللصوصية في الشهر بخمسة وعشرين ألف دينار ، فكان ينزل على الدور والأسواق بالشمع والمشعل جهارا ، ظفر به شحنة بغداد فوسطه وكان توزون ببغداد وإليه الأمور فاعتراه صرع .

                                                                                      وهلك أبو عبد الله البريدي ، وخلف ألف ألف دينار ، وبضعة عشر ألف ألف درهم ، ومن الآلات والقماش ما قيمته ألف ألف دينار وتوجه المتقي من الرقة إلى بغداد ، فأقام بهيت ، وحلف له توزون ، فلما التقاه ترجل له وقبل الأرض ، ومشى بين يديه إلى مخيم ضربه للمتقي ، فلما نزل قبض توزون عليه وسمله ، وأدخل بغداد أعمى . فلله الأمر ، وأخذ منه البرد والقضيب والخاتم ، وأحضر عبد الله المستكفي بالله بن المكتفي فبايعه بالخلافة .

                                                                                      [ ص: 111 ] خلع المتقي في العشرين من المحرم سنة ثلاث وثلاثين ، وقيل : في صفر . ولم يمهل توزون ولا حال عليه الحول .

                                                                                      توفي المتقي في السجن بعد كحله بدهر ، وذلك في شعبان سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وله من الأولاد : أبو منصور محمد فقط .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية