الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                    صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                    [ ص: 239 ] ( ياأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ( 19 ) )

                                                                                                                                                                                                    ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ( 20 ) وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ( 21 ) ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ( 22 ) )

                                                                                                                                                                                                    قال البخاري : حدثنا محمد بن مقاتل ، حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا الشيباني عن عكرمة ، عن ابن عباس - قال الشيباني : وذكره أبو الحسن السوائي ، ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس - : ( ياأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من أهلها ، فنزلت هذه الآية في ذلك .

                                                                                                                                                                                                    هكذا رواه البخاري وأبو داود ، والنسائي ، وابن مردويه ، وابن أبي حاتم ، من حديث أبي إسحاق الشيباني - واسمه سليمان بن أبي سليمان - عن عكرمة ، وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء ، كوفي أعمى - كلاهما عن ابن عباس بما تقدم .

                                                                                                                                                                                                    وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي ، حدثني علي بن حسين ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته ، فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها ، فأحكم الله تعالى عن ذلك ، أي نهى عن ذلك .

                                                                                                                                                                                                    تفرد به أبو داود وقد رواه غير واحد عن ابن عباس بنحو ذلك ، فقال وكيع عن سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن مقسم ، عن ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها فجاء رجل فألقى عليها ثوبا ، كان أحق بها ، فنزلت : ( ياأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) .

                                                                                                                                                                                                    وروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( ياأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) قال : كان الرجل إذا مات وترك جارية ، ألقى عليها حميمه ثوبه ، فمنعها من الناس . فإن كانت جميلة تزوجها ، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 240 ]

                                                                                                                                                                                                    وروى العوفي عنه : كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميم أحدهم ألقى ثوبه على امرأته ، فورث نكاحها ولم ينكحها أحد غيره ، وحبسها عنده حتى تفتدي منه بفدية : فأنزل الله : ( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها )

                                                                                                                                                                                                    وقال زيد بن أسلم في الآية [ ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) ] كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله ، وكان يعضلها حتى يرثها ، أو يزوجها من أراد ، وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها ، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك . رواه ابن أبي حاتم .

                                                                                                                                                                                                    وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن إسحاق ، حدثنا علي بن المنذر ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه قال : لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته ، وكان لهم ذلك في الجاهلية ، فأنزل الله : ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها )

                                                                                                                                                                                                    ورواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل ، به . ثم روي من طريق ابن جريج قال : أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل وترك امرأة ، حبسها أهله على الصبي يكون فيهم ، فنزلت : ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) الآية .

                                                                                                                                                                                                    قال ابن جريج : وقال مجاهد : كان الرجل إذا توفي كان ابنه أحق بامرأته ، ينكحها إن شاء ، إذا لم يكن ابنها ، أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه .

                                                                                                                                                                                                    قال ابن جريج : وقال عكرمة : نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم بن الأوس ، توفي عنها أبو قيس بن الأسلت ، فجنح عليها ابنه ، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، لا أنا ورثت زوجي ، ولا أنا تركت فأنكح ، فنزلت هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                    وقال السدي عن أبي مالك : كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها ، جاء وليه فألقى عليها ثوبا ، فإن كان له ابن صغير أو أخ حبسها حتى يشب أو تموت فيرثها ، فإن هي انفلتت فأتت أهلها ، ولم يلق عليها ثوبا نجت ، فأنزل الله : [ تعالى ] ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها )

                                                                                                                                                                                                    وقال مجاهد في الآية : كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها ، فيحبسها رجاء أن تموت امرأته ، فيتزوجها أو يزوجها ابنه . رواه ابن أبي حاتم . ثم قال : وروي عن الشعبي ، وعطاء بن أبي رباح ، وأبي مجلز ، والضحاك ، والزهري ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حيان - نحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 241 ]

                                                                                                                                                                                                    قلت : فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية ، وما ذكره مجاهد ومن وافقه ، وكل ما كان فيه نوع من ذلك ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) أي : لا تضاروهن في العشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقا من حقوقها عليك ، أو شيئا من ذلك على وجه القهر لها والاضطهاد .

                                                                                                                                                                                                    وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( ولا تعضلوهن ) يقول : ولا تقهروهن ( لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) يعني : الرجل تكون له امرأة وهو كاره لصحبتها ، ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي .

                                                                                                                                                                                                    وكذا قال الضحاك ، وقتادة [ وغير واحد ] واختاره ابن جرير .

                                                                                                                                                                                                    وقال ابن المبارك وعبد الرزاق : أخبرنا معمر قال : أخبرني سماك بن الفضل ، عن ابن البيلماني قال : نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية ، والأخرى في أمر الإسلام . قال عبد الله بن المبارك : يعني قوله : ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) في الجاهلية ( ولا تعضلوهن ) في الإسلام .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، والشعبي ، والحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء الخراساني ، والضحاك ، وأبو قلابة ، وأبو صالح ، والسدي ، وزيد بن أسلم ، وسعيد بن أبي هلال : يعني بذلك الزنا ، يعني : إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتضاجرها حتى تتركه لك وتخالعها ، كما قال تعالى في سورة البقرة : ( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله [ فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ] ) الآية [ البقرة : 229 ] .

                                                                                                                                                                                                    وقال ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك : الفاحشة المبينة : النشوز والعصيان .

                                                                                                                                                                                                    واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله : الزنا ، والعصيان ، والنشوز ، وبذاء اللسان ، وغير ذلك .

                                                                                                                                                                                                    يعني : أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ويفارقها ، وهذا جيد ، والله أعلم ، وقد تقدم فيما رواه أبو داود منفردا به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] في قوله : ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) قال : وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته ، فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها ، فأحكم الله عن ذلك ، أي نهى عن ذلك .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 242 ]

                                                                                                                                                                                                    قال عكرمة والحسن البصري : وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية ، ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام .

                                                                                                                                                                                                    قال عبد الرحمن بن زيد : كان العضل في قريش بمكة ، ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه ، فيفارقها على أن لا تزوج إلا بإذنه ، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد ، فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها ، وإلا عضلها . قال : فهذا قوله : ( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) الآية .

                                                                                                                                                                                                    وقال مجاهد في قوله : ( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) هو كالعضل في سورة البقرة .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وعاشروهن بالمعروف ) أي : طيبوا أقوالكم لهن ، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم ، كما تحب ذلك منها ، فافعل أنت بها مثله ، كما قال تعالى : ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) [ البقرة : 228 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي " وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة دائم البشر ، يداعب أهله ، ويتلطف بهم ، ويوسعهم نفقته ، ويضاحك نساءه ، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يتودد إليها بذلك . قالت : سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته ، وذلك قبل أن أحمل اللحم ، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني ، فقال : " هذه بتلك " ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها . وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد ، يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار ، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام ، يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) [ الأحزاب : 21 ] .

                                                                                                                                                                                                    وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتاب " الأحكام " ، ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 243 ]

                                                                                                                                                                                                    وقوله تعالى : ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا [ ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ] ) أي : فعسى أن يكون صبركم مع إمساككم لهن وكراهتهن فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة . كما قال ابن عباس في هذه الآية : هو أن يعطف عليها ، فيرزق منها ولدا . ويكون في ذلك الولد خير كثير وفي الحديث الصحيح : " لا يفرك مؤمن مؤمنة ، إن سخط منها خلقا رضي منها آخر " .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ) أي : إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها ، فلا يأخذن مما كان أصدق الأولى شيئا ، ولو كان قنطارا من مال .

                                                                                                                                                                                                    وقد قدمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفاية عن إعادته هاهنا .

                                                                                                                                                                                                    وفي هذه الآية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل ، وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق ، ثم رجع عن ذلك كما قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين ، قال : نبئت عن أبي العجفاء السلمي قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : ألا لا تغلوا في صداق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية ، وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه ، وحتى يقول : كلفت إليك علق القربة ، ثم رواه أحمد وأهل السنن من طرق ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي العجفاء - واسمه هرم بن مسيب البصري - وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .

                                                                                                                                                                                                    طريق أخرى عن عمر : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثني محمد بن عبد الرحمن ، عن المجالد بن سعيد ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله ثم قال : أيها الناس ، ما إكثاركم في صدق النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك . ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها . فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم قال : ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين ، نهيت الناس أن يزيدوا النساء صداقهم على أربعمائة درهم ؟ قال : نعم . فقالت : أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ؟ قال : وأي ذلك ؟ فقالت : أما سمعت الله يقول : ( وآتيتم إحداهن قنطارا [ فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ] ) [ النساء : 20 ] قال : فقال : [ ص: 244 ] اللهم غفرا ، كل الناس أفقه من عمر . ثم رجع فركب المنبر فقال : إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب . قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل . إسناده جيد قوي .

                                                                                                                                                                                                    طريق أخرى : قال ابن المنذر : حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق ، عن قيس بن ربيع ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قال عمر بن الخطاب : لا تغالوا في مهور النساء . فقالت امرأة : ليس ذلك لك يا عمر ، إن الله تعالى يقول : " وآتيتم إحداهن قنطارا من ذهب " . قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود : " فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئا " فقال عمر : إن امرأة خاصمت عمر فخصمته .

                                                                                                                                                                                                    طريق أخرى : عن عمر فيها انقطاع : قال الزبير بن بكار حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال : قال عمر بن الخطاب لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي الغصة - يعني يزيد بن الحصين الحارثي - فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال . فقالت امرأة - من صفة النساء طويلة ، في أنفها فطس - : ما ذاك لك . قال : ولم ؟ قالت : لأن الله [ تعالى ] قال : ( وآتيتم إحداهن قنطارا ) الآية . فقال عمر : امرأة أصابت ورجل أخطأ .

                                                                                                                                                                                                    ولهذا قال [ الله ] منكرا : ( وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ) أي : وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضت إليك .

                                                                                                                                                                                                    قال ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وغير واحد : يعني بذلك الجماع .

                                                                                                                                                                                                    وقد ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما : " الله يعلم أن أحدكما كاذب . فهل منكما تائب " ثلاثا . فقال الرجل : يا رسول الله ، مالي - يعني : ما أصدقها - قال : " لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 245 ]

                                                                                                                                                                                                    وفي سنن أبي داود وغيره عن بصرة بن أكتم أنه تزوج امرأة بكرا في خدرها ، فإذا هي حامل من الزنا ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له . فقضى لها بالصداق وفرق بينهما ، وأمر بجلدها ، وقال : " الولد عبد لك " .

                                                                                                                                                                                                    فالصداق في مقابلة البضع ، ولهذا قال تعالى : ( وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض )

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وأخذن منكم ميثاقا غليظا ) روي عن ابن عباس ومجاهد ، وسعيد بن جبير : أن المراد بذلك العقد .

                                                                                                                                                                                                    وقال سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عباس في قوله : ( وأخذن منكم ميثاقا [ غليظا ] ) قال : قوله : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .

                                                                                                                                                                                                    قال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ، ومجاهد ، وأبي العالية ، والحسن ، وقتادة ، ويحيى بن أبي كثير ، والضحاك والسدي - نحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                    وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس في الآية هو قوله : أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، فإن " كلمة الله " هي التشهد في الخطبة . قال : وكان فيما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به قال له : جعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي . رواه ابن أبي حاتم .

                                                                                                                                                                                                    وفي صحيح مسلم ، عن جابر في خطبة حجة الوداع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيها : " واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنكم أخذتموهن بأمان الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله " .

                                                                                                                                                                                                    وقوله تعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء [ إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ] ) يحرم تعالى زوجات الآباء تكرمة لهم ، وإعظاما واحتراما أن توطأ من بعده ، حتى إنها لتحرم على الابن بمجرد العقد عليها ، وهذا أمر مجمع عليه .

                                                                                                                                                                                                    قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا قيس بن الربيع عن أشعث بن سوار ، عن عدي بن ثابت ، عن رجل من الأنصار قال : لما توفي أبو قيس - يعني ابن الأسلت - وكان من صالحي الأنصار ، فخطب ابنه قيس امرأته ، فقالت : إنما أعدك ولدا وأنت من صالحي قومك ، ولكن آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره . فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أبا قيس توفي . فقال : " خيرا " . ثم قالت : إن ابنه قيسا خطبني وهو من صالحي قومه . وإنما كنت أعده ولدا ، فما ترى ؟ فقال لها : " ارجعي إلى بيتك " . قال : فنزلت هذه الآية ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء [ إلا ما قد سلف ] ) الآية .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 246 ]

                                                                                                                                                                                                    وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا ، حسين ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة في قوله : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) [ الآية ] قال : نزلت في أبي قيس بن الأسلت ، خلف على أم عبيد الله بنت صخر وكانت تحت الأسلت أبيه ، وفي الأسود بن خلف ، وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ، وكانت عند أبيه خلف ، وفي فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد ، كانت عند أمية بن خلف ، فخلف عليها صفوان بن أمية .

                                                                                                                                                                                                    وقد زعم السهيلي أن نكاح نساء الآباء كان معمولا به في الجاهلية; ولهذا قال : ( إلا ما قد سلف ) كما قال ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ) قال : وقد فعل ذلك كنانة بن خزيمة ، تزوج بامرأة أبيه ، فأولدها ابنه النضر بن كنانة قال : وقد قال صلى الله عليه وسلم : " ولدت من نكاح لا من سفاح " . قال : فدل على أنه كان سائغا لهم ذلك ، فإن أراد أن ذلك كان عندهم يعدونه نكاحا فيما بينهم ، فقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي حدثنا قراد ، حدثنا ابن عيينة عن عمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله ، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فأنزل الله : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ) ( وأن تجمعوا بين الأختين ) وهكذا قال عطاء وقتادة . ولكن فيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر ، والله أعلم . على كل تقدير فهو حرام في هذه الأمة ، مبشع غاية التبشع ولهذا قال : ( إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ) ولهذا قال [ تعالى ] ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) [ الأنعام : 151 ] وقال ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) [ الإسراء : 32 ] فزاد هاهنا : ( ومقتا ) أي : بغضا ، أي هو أمر كبير في نفسه ، ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته ، فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله; ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة; لأنهن أمهات ، لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو كالأب [ للأمة ] بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع ، بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه .

                                                                                                                                                                                                    وقال عطاء بن أبي رباح في قوله : ( ومقتا ) أي : يمقت الله عليه ( وساء سبيلا ) أي : وبئس طريقا لمن سلكه من الناس ، فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه ، فيقتل ، ويصير ماله فيئا لبيت المال . كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من طرق ، عن البراء بن عازب ، عن خاله أبي بردة - وفي رواية : ابن عمر - وفي رواية : عن عمه : أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله .

                                                                                                                                                                                                    وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا أشعث ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب قال : [ ص: 247 ] مر بي عمي الحارث بن عمرو ، ومعه لواء قد عقده له النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له : أي عم ، أين بعثك النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ؟ قال : بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه .

                                                                                                                                                                                                    مسألة :

                                                                                                                                                                                                    وقد أجمع العلماء على تحريم من وطئها الأب بتزويج أو ملك أو بشبهة أيضا ، واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع ، أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية . فعن الإمام أحمد رحمه الله أنها تحرم أيضا بذلك . قد روى [ الحافظ ] ابن عساكر في ترجمة خديج الحصني مولى معاوية قال : اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة ، فأدخلها عليه مجردة وبيده قضيب . فجعل يهوي به إلى متاعها ويقول : هذا المتاع لو كان له متاع! اذهب بها إلى يزيد بن معاوية . ثم قال : لا ادع لي ربيعة بن عمرو الجرشي - وكان فقيها - فلما دخل عليه قال : إن هذه أتيت بها مجردة ، فرأيت منها ذاك وذاك ، وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد . فقال : لا تفعل يا أمير المؤمنين ، فإنها لا تصلح له . ثم قال : نعم ما رأيت . ثم قال : ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري ، فدعوته ، وكان آدم شديد الأدمة ، فقال : دونك هذه ، بيض بها ولدك . قال : و [ قد ] كان عبد الله بن مسعدة هذا وهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة فربته ثم أعتقته ثم كان بعد ذلك مع معاوية من الناس على علي [ بن أبي طالب ] رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                    التالي السابق


                                                                                                                                                                                                    الخدمات العلمية