الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وذكر الصراط المستقيم مفردا معرفا تعريفين : تعريفا باللام ، وتعريفا بالإضافة ، وذلك يفيد تعينه واختصاصه ، وأنه صراط واحد ، وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها ، كقوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله فوحد لفظ الصراط وسبيله ، وجمع السبل المخالفة له ، [ ص: 38 ] وقال ابن مسعود خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ، وقال : هذا سبيل الله ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره ، وقال : هذه سبل ، على كل سبيل شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ قوله تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد ، وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه ، لا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق ، ولو أتى الناس من كل طريق ، واستفتحوا من كل باب ، فالطرق عليهم مسدودة ، والأبواب عليهم مغلقة إلا من هذا الطريق الواحد ، فإنه متصل بالله ، موصل إلى الله ، قال الله تعالى هذا صراط علي مستقيم قال الحسن : معناه صراط إلي مستقيم ، وهذا يحتمل أمرين : أن يكون أراد به أنه من باب إقامة الأدوات بعضها مقام بعض ، فقامت أداة " على " مقام " إلى " ، والثاني : أنه أراد التفسير على المعنى ، وهو الأشبه بطريق السلف ، أي صراط موصل إلي ، وقال مجاهد : الحق يرجع إلى الله ، وعليه طريقه ، لا يعرج على شيء ، وهذا مثل قول [ ص: 39 ] الحسن وأبين منه ، وهو من أصح ما قيل في الآية ، وقيل : علي فيه للوجوب ، أي علي بيانه وتعريفه والدلالة عليه ، والقولان نظير القولين في آية النحل ، وهي وعلى الله قصد السبيل والصحيح فيها كالصحيح في آية الحجر : أن السبيل القاصد وهو المستقيم المعتدل يرجع إلى الله ، ويوصل إليه ، قال طفيل الغنوي :


مضوا سلفا قصد السبيل عليهم وصرف المنايا بالرجال تشقلب

أي ممرنا عليهم ، وإليهم وصولنا ، وقال الآخر :


فهن المنايا أي واد سلكته     عليها طريقي أو علي طريقها

فإن قيل : لو أريد هذا المعنى لكان الأليق به أداة إلى التي هي للانتهاء ، لا أداة على التي هي للوجوب ، ألا ترى أنه لما أراد الوصول قال إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم وقال إلينا مرجعهم وقال ثم إلى ربهم مرجعهم وقال لما أراد الوجوب ثم إن علينا حسابهم وقال إن علينا جمعه وقرآنه وقال وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ونظائر ذلك .

قيل : في أداة على سر لطيف ، وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط على هدى ، وهو حق ، كما قال في حق المؤمنين أولئك على هدى من ربهم وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم فتوكل على الله إنك على الحق المبين والله عز وجل هو الحق ، وصراطه حق ، ودينه حق ، فمن استقام على صراطه فهو على الحق والهدى ، فكان في أداة " على " على هذا المعنى ما ليس في أداة إلى فتأمله ، فإنه سر بديع .

فإن قلت : فما الفائدة في ذكر على في ذلك أيضا ؟ وكيف يكون المؤمن مستعليا على الحق ، وعلى الهدى ؟ .

[ ص: 40 ] قلت : لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى ، مع ثباته عليه ، واستقامته إليه ، فكان في الإتيان بأداة " على " ما يدل على علوه وثبوته واستقامته ، وهذا بخلاف الضلال والريب ، فإنه يؤتى فيه بأداة " في " الدالة على انغماس صاحبه ، وانقماعه وتدسسه فيه ، كقوله تعالى فهم في ريبهم يترددون وقوله والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات وقوله فذرهم في غمرتهم حتى حين وقوله وإنهم لفي شك منه مريب .

وتأمل قوله تعالى وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين فإن طريق الحق تأخذ علوا صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير ، وطريق الضلال تأخذ سفلا ، هاوية بسالكها في أسفل سافلين .

وفي قوله تعالى قال هذا صراط علي مستقيم قول ثالث ، وهو قول الكسائي إنه على التهديد والوعيد ، نظير قوله إن ربك لبالمرصاد كما قال : تقول طريقك علي ، وممرك علي ، لمن تريد إعلامه بأنه غير فائت لك ، ولا معجز ، والسياق يأبى هذا ، ولا يناسبه لمن تأمله ، فإنه قاله مجيبا لإبليس الذي قال لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فإنه لا سبيل لي إلى إغوائهم ، ولا طريق لي عليهم .

فقرر الله عز وجل ذلك أتم التقرير ، وأخبر أن الإخلاص صراط عليه مستقيم ، [ ص: 41 ] فلا سلطان لك على عبادي الذين هم على هذا الصراط ، لأنه صراط علي ، ولا سبيل لإبليس إلى هذا الصراط ، ولا الحوم حول ساحته ، فإنه محروس محفوظ بالله ، فلا يصل عدو الله إلى أهله .

فليتأمل العارف هذا الموضع حق التأمل ، ولينظر إلى هذا المعنى ، ويوازن بينه وبين القولين الآخرين ، أيهما أليق بالآيتين ، وأقرب إلى مقصود القرآن وأقوال السلف ؟ .

وأما تشبيه الكسائي له بقوله إن ربك لبالمرصاد فلا يخفى الفرق بينهما سياقا ودلالة ، فتأمله ، ولا يقال في التهديد : هذا طريق مستقيم علي ، لمن لا يسلكه ، وليست سبيل المهدد مستقيمة ، فهو غير مهدد بصراط الله المستقيم ، وسبيله التي هو عليها ليست مستقيمة على الله ، فلا يستقيم هذا القول البتة .

وأما من فسره بالوجوب ، أي علي بيان استقامته والدلالة عليه ، فالمعنى صحيح ، لكن في كونه هو المراد بالآية نظر ، لأنه حذف في غير موضع الدلالة ، ولم يؤلف الحذف المذكور ليكون مدلولا عليه إذا حذف ، بخلاف عامل الظرف إذا وقع صفة فإنه حذف مألوف معروف ، حتى إنه لا يذكر البتة ، فإذا قلت : له درهم علي ، كان الحذف معروفا مألوفا ، فلو أردت : علي نقده ، أو علي وزنه وحفظه ، ونحو ذلك وحذفت لم يسغ ، وهو نظير : علي بيانه المقدر في الآية ، مع أن الذي قاله السلف أليق بالسياق ، وأجل المعنيين وأكبرهما .

وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية رضي الله عنه يقول : وهما نظير [ ص: 42 ] قوله تعالى إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى قال : فهذه ثلاثة مواضع في القرآن في هذا المعنى .

قلت : وأكثر المفسرين لم يذكر في سورة " والليل إذا يغشى " إلا معنى الوجوب ، أي علينا بيان الهدى من الضلال ، ومنهم من لم يذكر في سورة النحل إلا هذا المعنى كالبغوي ، وذكر في الحجر الأقوال الثلاثة ، وذكر الواحدي في بسيطه المعنيين في سورة النحل ، واختار شيخنا قول مجاهد و الحسن في السور الثلاث .

التالي السابق


الخدمات العلمية