الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر مكاتبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الملوك

وفيها بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرسل إلى كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم ، وأرسل حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس بمصر ، وأرسل شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ، وأرسل دحية إلى قيصر ، وأرسل سليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي ، وبعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى ، وأرسل عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ، وأرسل العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى أخي عبد القيس ، وقيل : إن إرساله كان سنة ثمان . والله أعلم .

وأما المقوقس فإنه قبل كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهدى إليه أربع جوار ، منهن مارية أم إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 92 ] وأما قيصر ، وهو هرقل ، فإنه قبل كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعله بين فخذيه وخاصرته ، وكتب إلى رجل برومية كان يقرأ الكتب يخبره شأنه ، فكتب إليه صاحب رومية : إنه النبي الذي كنا ننتظره لا شك فيه ، فاتبعه وصدقه . فجمع هرقل بطارقة الروم في الدسكرة ، وغلقت أبوابها ، ثم اطلع عليهم من علية ، وخافهم على نفسه ، وقال لهم : قد أتاني كتاب هذا الرجل يدعوني إلى دينه ، وإنه والله النبي الذي نجده في كتابنا ، فهلم فلنتبعه ونصدقه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا . فنخروا نخرة رجل واحد ، ثم ابتدروا الأبواب ليخرجوا ، فقال : ردوهم علي ، وخافهم على نفسه ، وقال لهم : إنما قلت لكم ما قلت لأنظر كيف صلابتكم في دينكم ، وقد رأيت منكم ما سرني ، فسجدوا له . وانطلق وقال لدحية : إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل ، ولكني أخاف الروم على نفسي ، ولولا ذلك لاتبعته ، فاذهب إلى ضغاطر الأسقف الأعظم في الروم ، واذكر له أمر صاحبك ، وانظر ما يقول لك .

فجاء دحية وأخبره بما جاء به من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له ضغاطر : والله إن صاحبك نبي مرسل ، نعرفه بصفته ، ونجده في كتابنا . ثم أخذ عصاه وخرج على الروم وهم في الكنيسة ، فقال : يا معشر الروم ، قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا إلى الله ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله . قال : فوثبوا عليه فقتلوه .

فرجع دحية إلى هرقل وأخبره الخبر . قال : قد قلت : إنا نخافهم على أنفسنا . وقال قيصر للروم : هلموا نعطيه الجزية ، فأبوا ، فقال : نعطيه أرض سورية ، وهي الشام ، ونصالحه ، فأبوا ، واستدعى هرقل أبا سفيان ، وكان بالشام تاجرا إلى الشام في الهدنة ، فحضر عنده ومعه جماعة من قريش أجلسهم هرقل خلفه ، وقال : إني سائله ، فإن كذب فكذبوه . فقال أبو سفيان : لولا أن يؤثر عني الكذب لكذبت ، فسأله عن النبي ، قال : فصغرت له شأنه ، فلم يلتفت إلى قولي وقال : كيف نسبه فيكم ؟ قلت : هو أوسطنا نسبا . قال : هل كان من أهل بيته من يقول مثل قوله ؟ قلت : لا . قال : فهل له فيكم ملك سلبتموه إياه ؟ قلت : لا . قال : فمن اتبعه منكم ؟ قلت : الضعفاء والمساكين والأحداث . قال : فهل يحبه من يتبعه ويلزمه ، أو يقليه ويفارقه ؟ قلت : ما تبعه رجل ففارقه . قال : فكيف الحرب بينكم وبينه ؟ قلت : سجال ، يدال علينا ، وندال عليه . قال : هل يغدر ؟ [ ص: 93 ] قال : فلم أجد شيئا أغمز به غيرها ، قلت : لا ، ونحن منه في هدنة ، ولا نأمن غدره . قال : فما التفت إليها .

قال أبو سفيان : فقال لي هرقل : سألتك عن نسبه ، فزعمت أنه من أوسط الناس ، وكذلك الأنبياء ، وسألتك هل قال أحد من أهل بيته مثل قوله ، فهو متشبه به ، فزعمت أن لا ، وسألتك هل سلبتموه ملكه فجاء بهذا لتردوا عليه ملكه ، فزعمت أن لا ، وسألتك عن أتباعه ، فزعمت أنهم الضعفاء والمساكين ، وكذلك أتباع الرسل ، وسألتك عمن يتبعه أيحبه أم يفارقه ، فزعمت أنهم يحبونه ولا يفارقونه ، وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه ، وسألتك هل يغدر ، فزعمت أن لا ، ولئن صدقتني ليغلبن على ما تحت قدمي هاتين ، ولوددت أني عنده فأغسل قدميه . انطلق لشأنك .

قال : فخرجت وأنا أضرب إحدى يدي بالأخرى وأقول : أي عباد الله ، لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، أصبح ملوك الروم يهابونه في سلطانهم .

قال : وقدم عليه دحية بكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، السلام على من اتبع الهدى ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإن إثم الأكارين عليك .

وأما الحارث بن أبي شمر الغساني ، فأتاه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع شجاع بن وهب ، فلما قرأه قال : أنا سائر إليه ، فلما بلغ قوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : باد ملكه .

وأما النجاشي ، فإنه لما جاءه كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - آمن به واتبعه ، وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب ، وأرسل إليه ابنه في ستين من الحبشة ، فغرقوا في البحر ، وأرسل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكانت مهاجرة بالحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش ، فتنصر وتوفي بالحبشة ، فخطبها النجاشي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابت ، وزوجها ، وأصدقها النجاشي أربعمائة دينار ، فلما سمع أبو سفيان تزويج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة قال : ذاك الفحل لا يقدع أنفه .

[ ص: 94 ] وأما كسرى فجاءه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الله بن حذافة ، فمزق الكتاب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : مزق ملكه . وكان كتابه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس ، سلام على من اتبع الهدى ، وآمن بالله ورسوله ، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وإني أدعوك بدعاء الله ، وإني رسول الله إلى الناس كافة ، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ، فأسلم تسلم ، وإن توليت فإن إثم المجوس عليك .

فلما قرأه شقه ، قال : يكتب إلي بهذا وهو عبدي ! ثم كتب إلى باذان وهو باليمن : أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين ، فليأتياني به . فبعث باذان نابوه ، وكان كاتبا حاسبا ، ورجلا آخر من الفرس يقال له : خرخسره ، وكتب معهما يأمره بالمسير معهما إلى كسرى ، وتقدم إلى نابوه أن يأتيه بخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمعت قريش بذلك ففرحوا ، وقالوا : أبشروا ، فقد نصب له كسرى ملك الملوك ، كفيتم الرجل .

فخرجا حتى قدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد حلقا لحاهما ، وأعفيا شواربهما ، فكره النظر إليهما وقال : ويلكما ، من أمركما بهذا ؟ قالا : ربنا - يعنيان الملك . فقال : لكن ربي أمرني أن أعفي لحيتي ، وأقص شاربي ، فأعلماه بما قدما له وقالا : إن فعلت كتب باذان فيك إلى كسرى ، وإن أبيت فهو يهلكك ويهلك قومك . فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ارجعا حتى تأتياني غدا . وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء : إن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله ، فدعاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبرهما بقتل كسرى ، وقال لهما : إن ديني وسلطاني سيبلغ ملك كسرى ، وينتهي منتهى الخف والحافر ، وأمرهما أن يقولا لباذان : أسلم ، فإن أسلم أقره على ما تحت يده ، وأملكه على قومه . ثم أعطى خرخسره منطقة ذهب وفضة أهداها له بعض الملوك .

وخرجا فقدما على باذان وأخبراه الخبر ، فقال : والله ما هذا كلام ملك ، وإني لأراه نبيا ، ولننظرن ، فإن كان ما قال حقا ، فإنه لنبي مرسل ، وإن لم يكن فنرى فيه رأينا . فلم [ ص: 95 ] يلبث باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه يخبره بقتل كسرى ، وأنه قتله غضبا للفرس لما استحل من قتل أشرافهم ، ويأمره بأخذ الطاعة له باليمن ، وبالكف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . فلما أتاه كتاب شيرويه أسلم ، وأسلم معه أبناء من فارس . وكانت حمير تسمي خرخسره صاحب المعجزة ، والمعجزة بلغة حمير المنطقة .

وأما هوذة بن علي فكان ملك اليمامة ، فلما أتاه سليط بن عمرو يدعوه إلى الإسلام ، وكان نصرانيا ، أرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفدا فيهم مجاعة بن مرارة والرجال بن عنفوة ، يقول له : إن جعل الأمر له من بعده أسلم وسار إليه ونصره ، وإلا قصد حربه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لا ، ولا كرامة ، اللهم اكفنيه ! فمات بعد قليل .

وأما مجاعة والرجال فأسلما ، وأقام الرجال عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قرأ سورة البقرة وغيرها ، وتفقه وعاد إلى اليمامة ، فارتد وشهد أن رسول الله أشرك مسيلمة معه ، فكانت فتنته أشد من فتنة مسيلمة .

( مجاعة بضم الميم وتشديد الجيم . والرجال بالجيم المشددة ، وقيل بالحاء المهملة المشددة . وعنفوة بضم العين ، وسكون النون ، وضم الفاء ، وفتح الواو ) .

وأما المنذر بن ساوى والي البحرين ، فلما أتاه العلاء بن الحضرمي يدعوه ومن معه بالبحرين إلى الإسلام أو الجزية ، وكانت ولاية البحرين للفرس ، فأسلم المنذر بن ساوى ، وأسلم جميع العرب بالبحرين .

فأما أهل البلاد من اليهود والنصارى والمجوس فإنهم صالحوا العلاء والمنذر على الجزية من كل حالم دينار ، ولم يكن بالبحرين قتال ، إنما بعضهم أسلم ، وبعضهم صالح .

وولي الحج في هذه السنة المشركون .

وفي هذه السنة ماتت أم رومان ، وهي أم عائشة زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - .

التالي السابق


الخدمات العلمية