الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      الحلاج

                                                                                      هو الحسين بن منصور بن محمي أبو عبد الله ، ويقال : أبو مغيث ، [ ص: 314 ] الفارسي البيضاوي الصوفي .

                                                                                      والبيضاء مدينة ببلاد فارس .

                                                                                      وكان جده محمي مجوسيا .

                                                                                      نشأ الحسين بتستر ، فصحب سهل بن عبد الله التستري ، وصحب ببغداد الجنيد ، وأبا الحسين النوري ، وصحب عمرو بن عثمان المكي . وأكثر الترحال والأسفار والمجاهدة .

                                                                                      وكان يصحح حاله أبو العباس بن عطاء ، ومحمد بن خفيف ، وإبراهيم أبو القاسم النصرآباذي .

                                                                                      وتبرأ منه سائر الصوفية والمشايخ والعلماء لما سترى من سوء سيرته ومروقه ، ومنهم من نسبه إلى الحلول ، ومنهم من نسبه إلى الزندقة ، وإلى الشعبذة والزوكرة ، وقد تستر به طائفة من ذوي الضلال والانحلال ، وانتحلوه ، وروجوا به على الجهال . نسأل الله العصمة في الدين .

                                                                                      أنبأني ابن علان وغيره : أن أبا اليمن الكندي أخبرهم ، قال : أخبرنا أبو منصور الشيباني ، أخبرنا أبو بكر الخطيب ، حدثني مسعود بن ناصر [ ص: 315 ] السجزي ، حدثنا ابن باكويه ، أخبرني حمد بن الحلاج قال : مولد أبي بطور البيضاء ، ومنشؤه تستر ، وتلمذ لسهل سنتين ، ثم صعد إلى بغداد .

                                                                                      كان يلبس المسوح ، ووقتا يلبس الدراعة ، والعمامة والقباء ، ووقتا يمشي بخرقتين ، فأول ما سافر من تستر إلى البصرة كان له ثماني عشرة سنة ، ثم خرج إلى عمرو المكي ، فأقام معه ثمانية عشر شهرا ، ثم إلى الجنيد ، ثم وقع بينه وبين الجنيد لأجل مسألة ، ونسبه الجنيد إلى أنه مدع ، فاستوحش وأخذ والدتي ، ورجع إلى تستر ، فأقام سنة ، ووقع له القبول التام ، ولم يزل عمرو بن عثمان يكتب الكتب فيه بالعظائم حتى حرد أبي ورمى بثياب الصوفية ، ولبس قباء ، وأخذ في صحبة أبناء الدنيا .

                                                                                      ثم إنه خرج وغاب عنا خمس سنين ، بلغ إلى ما وراء النهر ، ثم رجع إلى فارس ، وأخذ يتكلم على الناس ، ويعمل المجلس ، ويدعو إلى الله تعالى ، وصنف لهم تصانيف ، وكان يتكلم على ما في قلوب الناس ، فسمي بذلك حلاج الأسرار ، ولقب به .

                                                                                      ثم قدم الأهواز وطلبني ، فحملت إليه ، ثم خرج إلى البصرة ، ثم خرج إلى مكة ولبس المرقعة ، وخرج معه خلق ، وحسده أبو يعقوب النهرجوري ، وتكلم فيه ، ثم جاء إلى الأهواز ، وحمل أمي وجماعة من كبار أهل الأهواز إلى بغداد ، فأقام بها سنة . ثم قصد إلى الهند وما وراء النهر ثانيا ، ودعا إلى الله ، وألف لهم كتبا ، ثم رجع ، فكانوا يكاتبونه من الهند بالمغيث ، ومن بلاد ماصين وتركستان بالمقيت ، ومن خراسان بأبي عبد الله الزاهد ، ومن خوزستان بالشيخ حلاج الأسرار .

                                                                                      [ ص: 316 ] وكان ببغداد قوم يسمونه المصطلم ، وبالبصرة المحير ، ثم كثرت الأقاويل عليه بعد رجوعه من هذه السفرة ، فقام وحج ثالثا ، وجاور سنتين ، ثم رجع وتغير عما كان عليه في الأول ، واقتنى العقار ببغداد ، وبني دارا ، ودعا الناس إلى معنى لم أقف عليه ، إلا على شطر منه ، ثم وقع بينه وبين الشبلي وغيره من مشايخ الصوفية ، فقيل : هو ساحر . وقيل : هو مجنون . وقيل : هو ذو كرامات ، حتى أخذه السلطان . انتهى كلام ولده .

                                                                                      وقال السلمي : إنما قيل له : الحلاج لأنه دخل واسطا إلى حلاج ، وبعثه في شغل ، فقال : أنا مشغول بصنعتي . فقال : اذهب أنت حتى أعينك . فلما رجع وجد كل قطن عنده محلوجا .

                                                                                      قال إبراهيم بن عمر بن حنظلة الواسطي السماك ، عن أبيه : قال : دخل الحسين بن منصور واسطا ، فاستقبله قطان ، فكلفه الحسين إصلاح شغله والرجل يتثاقل فيه ، فقال : اذهب فإني أعينك . فذهب ، فلما رجع رأى كل قطن عنده محلوجا مندوفا ، وكان أربعة وعشرين ألف رطل .

                                                                                      وقيل : بل لتكلمه على الأسرار .

                                                                                      وقيل : كان أبوه حلاجا .

                                                                                      وقال أبو نصر السراج : صحب الحلاج عمرو بن عثمان ، وسرق منه كتبا فيها شيء من علم التصوف ، فدعا عليه عمرو : اللهم اقطع يديه ورجليه .

                                                                                      قال ابن الوليد : كان المشايخ يستثقلون كلامه ، وينالون منه ; لأنه كان يأخذ نفسه بأشياء تخالف الشريعة ، وطريقة الزهاد ، وكان يدعي المحبة لله ، ويظهر منه ما يخالف دعواه .

                                                                                      قلت : ولا ريب أن اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- علم لمحبة الله ; لقوله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم . [ ص: 317 ] أبو عبد الرحمن السلمي : أخبرنا محمد بن الحضرمي ، عن أبيه ، قال : كنت جالسا عند الجنيد ، إذ ورد شاب عليه خرقتان ، فسلم وجلس ساعة ، فأقبل عليه الجنيد ، فقال له : سل ما تريد أن تسأل . فقال له : ما الذي باين الخليقة عن رسوم الطبع ؟ فقال الجنيد له : أرى في كلامك فضولا ، لم لا تسأل عما في ضميرك من الخروج والتقدم على أبناء جنسك ؟ فأقبل الجنيد يتكلم ، وأخذ هو يعارضه ، إلى أن قال له الجنيد ، أي خشبة تفسدها ؟ يريد أنه يصلب .

                                                                                      قال السلمي : وسمعت أبا علي الهمذاني يقول : سألت إبراهيم بن شيبان عن الحلاج ، فقال : من أحب أن ينظر إلى ثمرات الدعاوى الفاسدة فلينظر إلى الحلاج وما صار إليه .

                                                                                      أبو عبد الله بن باكويه : حدثنا أبو الفوارس الجوزقاني : حدثنا إبراهيم بن شيبان ، قال : سلم أستاذي أبو عبد الله المغربي على عمرو بن عثمان ، فجاراه في مسألة ، فجرى في عرض الكلام أن قال : هاهنا شاب على جبل أبي قبيس . فلما خرجنا من عند عمرو صعدنا إليه ، وكان وقت الهاجرة ، فدخلنا عليه ، فإذا هو جالس في صحن الدار على صخرة في الشمس ، والعرق يسيل منه على الصخرة ، فلما نظر إليه المغربي رجع وأشار بيده : ارجع ؛ فنزلنا المسجد ، فقال لي أبو عبد الله : إن عشت ترى ما يلقى هذا ، قد قعد بحمقه يتصبر مع الله . فسألنا عنه ، فإذا هو الحلاج .

                                                                                      قال السلمي : حدثنا محمد بن عبد الله بن شاذان : سمعت محمد بن علي الكتاني يقول : دخل الحلاج مكة ، فجهدنا حتى أخذنا مرقعته ، فأخذنا منها قملة ، فوزناها ، فإذا فيها نصف دانق من شدة مجاهدته .

                                                                                      [ ص: 318 ] قلت : ابن شاذان متهم ، وقد سمعنا بكثرة القمل ، أما كبر القمل فما وقع ، ولو كان يقع لتداوله الناس .

                                                                                      قال علي بن المحسن التنوخي أخبرنا أبي : حدثني محمد بن عمر القاضي قال : حملني خالي معه إلى الحلاج ، فقال لخالي : قد عملت على الخروج من البصرة . قال : ولم ؟ قال : قد صيرني أهلها حديثا ، حتى إن رجلا حمل إلي دراهم وقال : اصرفها إلى الفقراء ، فلم يكن بحضرتي أحد ، فجعلتها تحت بارية ، فلما كان من غد احتف بي قوم من الفقراء ، فشلت البارية وأعطيتهم تلك الدراهم ، فشنعوا ، وقالوا : إني أضرب بيدي إلى التراب فيصير دراهم . وأخذ يعدد مثل هذا ، فقام خالي وقال : هذا متنمس .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية