الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 114 ]

                الفصل الأول في تعريف أصول الفقه : وهو مركب من مضاف ومضاف إليه . وما كان كذلك فتعريفه من حيث هو مركب إجمالي لقبي ، وباعتبار كل من مفرداته تفصيلي .

                التالي السابق


                قوله : " الأول " يعني من فصول المقدمة " في تعريف أصول الفقه " .

                التعريف : هو تصيير الشيء معروفا بما يميزه عما يشتبه به بذكر جنسه وفصله ، أو لازم من لوازمه التي لا توجد في غيره ، أو شرح لفظ الغريب بلفظ مشهور مألوف .

                مثال الأول : قولنا : ما الإنسان ؟ فيقال : حيوان ناطق ، وهو الحد التام .

                ومثال الثاني : قولنا فيه : حيوان ضاحك ، أو قابل لصنعة الكتابة ، وفي الخمر : إنه مائع مزيل ، وهو رسمي .

                ومثال الثالث : قولنا : ما الغضنفر والدلهمس ؟ فيقال : الأسد ، وما الرحيق والسلسبيل فيقال : الخمر ، وهو لفظي .

                وباقي أحكام التعريف مستوفى في موضعه .

                وحقيقة التعريف : هو فعل المعرف ، ثم أطلق في الاصطلاح على اللفظ المعرف به مجازا ، لأنه أثر اللافظ كما أن التعريف أثر المعرف ، والتعريف أعم من الحد ، لأن التعريف يحصل بذكر لازم ، أو خاصة ، أو لفظ يحصل معه الاطراد [ ص: 115 ] والانعكاس ، والحد لا يحصل إلا بذكر الجنس والفصل المتضمن لجميع ذاتيات المحدود ، فكل حد تعريف ، وليس كل تعريف حدا ، لأنه قد لا يتضمن جميع الذاتيات .

                قوله : " وهو " يعني أصول الفقه ، رد إليه ضمير المذكر ، " مركب من مضاف ومضاف إليه " ، فالمضاف هو أصول ، والمضاف إليه هو الفقه .

                والتركيب في اللغة : هو ضم شيء إلى غيره من جنسه أو غير جنسه ، ومنه تركيب الفص في الخاتم ، والنصل في السهم ، ومنه ركوب الدابة ، لأن الراكب ينضم إليها ، ويلابسها .

                وهو في الاصطلاح ، مشتمل على المعنى اللغوي ، غير أن التراكيب فيما يظهر أخص من التأليف ، لأنه مأخوذ من ألف فلان فلانا ، وألف الطائر وكره يألفه ألفا ، إذا لازمه ولم يؤثر مفارقته ، وذلك لا يستلزم الانضمام والملابسة ، بل يحصل بمجرد المقاربة ، بخلاف التركيب ، فإنه تفعيل من الركوب والمماسة ، والملابسة فيه لازمة ، والله أعلم .

                وأما الإضافة ، فيه في اللغة : الإمالة ، قال الجوهري : أضفت الشيء إلى الشيء ، أي : أملته .

                قلت : وبعض المحققين من النحاة يقول : الإضافة الإسناد ، ومنه أضفت ظهري إلى الحائط ، أي : أسندته ، ويحتجون بقول امرئ القيس : [ ص: 116 ]


                فلما دخلناه أضفنا ظهورنا إلى كل حاري قشيب مشطب

                يعني أسندنا ، وهذا أيضا فيه معنى الإمالة ، غير أن الإسناد أخص ، فكل مسند ممال ، وليس كل ممال مسندا على ما هو ظاهر مشاهد .

                فعلى الأول : اللفظ المضاف يميل به المتكلم إلى المضاف إليه ، ليعرفه أو يخصصه ، إذ ذلك فائدة الإضافة ، أعني التعريف ، نحو : غلام زيد ، أو التخصيص ، نحو : غلام رجل ، فغلام تعرف في الأول بزيد ، وتخصص في الثاني برجل عن أن يكون غلام امرأة .

                وعلى الثاني : اللفظ المضاف يسنده المتكلم إلى المضاف إليه في تعريفه أو تخصيصه ، وقد حصل في الإضافة اللفظية الضم الذي هو حقيقة التركيب ، لأن المضاف مضموم إلى المضاف إليه لفائدة الإضافة المذكورة .

                قوله : " وما كان كذلك فتعريفه من حيث هو مركب إجمالي لقبي ، وباعتبار كل من مفرداته تفصيلي " يعني ما كان من المسميات مركبا تركيب إضافة ، كقولنا : أصول الفقه ، وأصول الدين ، فالإشارة بقوله : كذلك إلى قوله : وهو مركب ، أي : وما كان مركبا ، فتعريفه من حيث هو مركب ، أي : فتعريفه باعتبار مجموع لفظه الذي تركب منه إجمالي لقبي ، أي : يسمى بذلك في الاصطلاح ، وتصح تسميته بذلك لمن سماه .

                وقوله : " إجمالي لقبي " لفظان منسوبان إلى الإجمال واللقب . [ ص: 117 ]

                والإجمال ، هو جعل الشيء جملة ، كما سيأتي بيانه في باب المجمل إن شاء الله تعالى .

                واللقب : هو اللفظ المطلق على معين ، وهو نوع من العلم .

                غير أن الفرق بينهما : أن اللقب علم يكره من وضع عليه أن يخاطب به لقبح فيه ، كقولهم : أنف الناقة ، وعائد الكلب ، ونحوهما من الألقاب ، ولهذا سمي التخاطب به تنابزا ونبزا ، قال الجوهري : اللقب واحد الألقاب ، وهي الأنباز ، وقال في نبز : النبز : اللقب .

                قلت : ولفظ النبز مشعر بكراهة ، وروى عبد الرازق عن معمر عن قتادة في قوله سبحانه وتعالى : ولا تنابزوا بالألقاب [ الحجرات : 11 ] قال : لا تقل لأخيك المسلم : يا فاسق ، يا منافق . وروى عن معمر عن الحسن ، قال : كان اليهودي والنصراني يسلم ، فيقولون له : يا يهودي يا نصراني ، فنهوا عن ذلك .

                قلت : فهذا يدل على ما قلته من أن اللقب علم يكرهه المخاطب به ، بخلاف العلم ، فإنه أعم من ذلك ، أي : قد يكون مما يكره التخاطب به وهو اللقب ، وقد لا يكون العلم لقبا كزيد وعمرو .

                وهذه العبارة وهي قولنا : " من حيث هو مركب " تقع كثيرا في كلام الأصوليين المتأخرين ، وقد يغمض معناها على بعض الناس ممن لم يعان تلك العبارات .

                ومعنى قولهم : الحكم على هذا الشيء من حيث هو كذا ، أي : من جهة كونه كذا ، لأن حيث في اللغة ظرف مكان ، والمكان مجاور للجهة في الحقيقة [ ص: 118 ] والتصور ، لأن الجهة مقصد المتحرك ، فلا تنفك عن المكان حقيقة وتصورا . فقولنا : " فتعريفه من حيث هو مركب إجمالي " أي : من جهة تركيبه ، أو من الجهة التي هو منها مركب ، ولا شك أن كل مركب ، فله من حيث حقيقته وجهان أحدهما جهة أجزائه التي تركب منها ، والثاني جهة حقيقته المجتمعة من تلك الأجزاء ، ويختلف النظر فيه والحكم عليه باختلاف جهته .

                مثاله : أنا إذا عرفنا الحبر من جهة تركيبه من مفرداته التي هي العفص والزاج والصمغ ، قلنا : الحبر مائع أسود يكتب به ، وإذا عرفناه باعتبار كل واحد من مفرداته ، قلنا : العفص : جوهر نباتي مستدير ، خشن الظاهر مضرس ، والزاج : جوهر مستحجر أبيض ، طبعه التسويد . والصمغ : جوهر تدفعه طبيعة الشجر فيسيل على ظاهره .

                وكذلك قولنا : الإنسان حيوان ناطق ، فإذا عرفنا مفردات أجزائه ، قلنا : اليد عضو آلي معد للبطش ، والرجل كذلك لكنه معد للمشي .

                فقد رأيت اختلاف الأحكام على الحقائق باختلاف جهاتها .

                إذا ثبت هذا فمعنى قولنا : إن تعريف المركب من جهة كونه مركبا إجمالي ، أي : فيه إجمال وعموم وغموض بالنسبة إلى تعريفه من جهة تفصيله ومفردات تركيبه ، كما يتبين فيما بعد ، وسننبه عليه إن شاء الله تعالى . [ ص: 119 ]

                ومعنى تسمية هذا التعريف لقبا أنه من جهة كون المعرف لقبا على مفهومه ، مثاله : أن لفظ أصول الفقه لقب على مدلوله ، وهو العلم بالقواعد التي تستنبط بها الأحكام ، والتفصيلي منسوب إلى التفصيل ، أي تعريفه من جهة تفصيل مفرداته .

                وقوله : " باعتبار كل من مفرداته " أي باعتبار كل واحد ، أو كل مفرد من مفرداته ، فحذف المضاف إليه لدلالة ما بعده عليه ، كقوله تعالى : وكلا آتينا حكما وعلما [ الأنبياء : 79 ] ، وكلا وعد الله الحسنى [ النساء : 95 ] ، وكل أتوه داخرين [ النحل : 87 ] . ومثال أصول الفقه في تعريفه الإجمالي واللقبي : أصول الدين فيهما .

                فنقول في تعريفه الإجمالي : هو العلم الكاشف عن أحكام العقائد ، أو القواعد التي يتوصل بها إلى معرفة أحكام العقائد .

                ونقول في تعريفه التفصيلي : الأصول : الأدلة ، كما قلنا في أصول الفقه ، والدين في اللغة : الطاعة والعادة والشأن والجزاء والمكافأة .

                وفي الاصطلاح : هو الشريعة الواردة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، وبالضرورة هذا أدخل في البيان من الأول .




                الخدمات العلمية