الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      ابن مندة

                                                                                      الإمام الكبير الحافظ المجود أبو عبد الله ، محمد بن يحيى بن مندة ، واسم مندة : إبراهيم بن الوليد بن سندة بن بطة بن أستندار بن جهاربخت العبدي مولاهم الأصبهاني ، جد صاحب التصانيف الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد .

                                                                                      ولد في حدود العشرين ومائتين في حياة جدهم مندة .

                                                                                      سمع إسماعيل بن موسى السدي ، وعبد الله بن معاوية الجمحي ، ومحمد بن سليمان لوين ، وأبا كريب محمد بن العلاء ، وهناد بن السري ، ومحمد بن بشار ، وأبا سعيد الأشج ، وأحمد بن الفرات ، وطبقتهم بالكوفة والبصرة وأصبهان ، وجمع وصنف .

                                                                                      حدث عنه : القاضي أبو أحمد العسال ، وأبو القاسم الطبراني ، وأبو الشيخ ، وأبو إسحاق بن حمزة ، ومحمد بن أحمد بن عبد الوهاب ، وولده إسحاق بن محمد ، وخلق سواهم من شيوخ أبي نعيم الحافظ ، الذين لقيهم بأصبهان .

                                                                                      [ ص: 189 ] وكان ينازع الحافظ أحمد بن الفرات ، ويذاكره ، ويرادده وهو شاب .

                                                                                      قال أبو الشيخ في " تاريخه " : هو أستاذ شيوخنا وإمامهم ، أدرك سهل بن عثمان .

                                                                                      قلت : سهل من شيوخ مسلم ، مات سنة نيف وثلاثين ومائتين .

                                                                                      قال أبو الشيخ : ومات ابن مندة في رجب سنة إحدى وثلاثمائة .

                                                                                      أخبرنا محمد بن يوسف المقرئ : أخبرنا عبد الوهاب بن الحافظ أخبرنا أبو طاهر السلفي ، أخبرنا أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن الحافظ محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة ، أخبرنا أبي وعماي قالوا : أخبرنا أبونا أبو عبد الله ، أخبرنا أبي ، حدثني أبي ، حدثنا سعيد بن عنبسة ، حدثنا بقية ، عن بحير ، عن خالد بن معدان ، عن أبي زياد ، قال : سألت عائشة عن أكل البصل ، فقالت : آخر طعام أكله النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه بصل .

                                                                                      هذا حديث غريب صالح الإسناد ، رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن حيوة بن شريح عن بقية .

                                                                                      أخبرنا إسحاق بن أبي بكر : أخبرنا ابن خليل ، أخبرنا أبو المكارم التيمي ، أخبرنا أبو علي الحداد ، أخبرنا أبو نعيم الحافظ ، حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا محمد بن يحيى بن مندة ، حدثنا أبو بكر بن أبي النضر ، حدثنا أبو النضر ، حدثنا أبو عقيل الثقفي ، حدثنا مجالد ، حدثنا عون بن عبد الله [ ص: 190 ] بن عتبة ، عن أبيه قال : ما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى قرأ وكتب .

                                                                                      قلت : لم يرد أنه -صلى الله عليه وسلم- كتب شيئا ، إلا ما في " صحيح البخاري " من أنه يوم صلح الحديبية كتب اسمه " محمد بن عبد الله " . واحتج بذلك القاضي أبو الوليد الباجي وقام عليه طائفة من فقهاء الأندلس بالإنكار ، وبدعوه حتى كفره بعضهم . والخطب يسير ، فما خرج عن كونه أميا بكتابة اسمه الكريم ، فجماعة من الملوك ما علموا من الكتابة سوى مجرد العلامة ، وما عدهم الناس بذلك كاتبين ، بل هم أميون ، فلا عبرة بالنادر ; وإنما الحكم للغالب ، والله -تعالى- فمن حكمته لم يلهم نبيه تعلم الكتابة ، ولا قراءة الكتب حسما لمادة المبطلين ، كما قال تعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون .

                                                                                      ومع هذا فقد افتروا وقالوا : أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه فانظر إلى قحة المعاند ، فمن الذي كان بمكة وقت المبعث يدري أخبار الرسل والأمم الخالية ؟ ما كان بمكة أحد بهذه الصفة أصلا . ثم ما المانع من تعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- كتابة اسمه واسم أبيه مع فرط ذكائه ، وقوة فهمه ، ودوام مجالسته لمن يكتب بين يديه الوحي والكتب إلى ملوك الطوائف ، ثم هذا خاتمه في يده ، [ ص: 191 ] ونقشه : محمد رسول الله .

                                                                                      فلا يظن عاقل ، أنه -عليه السلام- ما تعقل ذلك ، فهذا كله يقتضي أنه عرف كتابة اسمه واسم أبيه ، وقد أخبر الله بأنه -صلوات الله عليه- ما كان يدري ما الكتاب ؟ ثم علمه الله -تعالى- ما لم يكن يعلم . ثم الكتابة صفة مدح .

                                                                                      قال تعالى : الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم فلما بلغ الرسالة ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، شاء الله لنبيه أن يتعلم الكتابة النادرة التي لا يخرج بمثلها عن أن يكون أميا ، ثم هو القائل : إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب فصدق إخباره بذلك ; إذ الحكم للغالب ، فنفى عنه وعن أمته الكتابة والحساب لندور ذلك فيهم وقلته ، وإلا فقد كان فيهم كتاب الوحي وغير ذلك ، وكان فيهم من يحسب ، وقال تعالى : ولتعلموا عدد السنين والحساب .

                                                                                      . ومن علمهم الفرائض ، وهي تحتاج إلى حساب وعول ، وهو -عليه السلام- فنفى عن الأمة الحساب ، فعلمنا أن المنفي كمال علم ذلك ودقائقه التي يقوم بها القبط والأوائل ، فإن ذلك ما لم يحتج إليه دين الإسلام ولله الحمد ، فإن القبط عمقوا في الحساب والجبر ، وأشياء تضيع الزمان . وأرباب [ ص: 192 ] الهيئة تكلموا في سير النجوم والشمس والقمر ، والكسوف والقران بأمور طويلة لم يأت الشرع بها ، فلما ذكر -صلى الله عليه وسلم- الشهور ومعرفتها ، بين أن معرفتها ليست بالطرق التي يفعلها المنجم وأصحاب التقويم ، وأن ذلك لا نعبأ به في ديننا ، ولا نحسب الشهر بذلك أبدا . ثم بين أن الشهر بالرؤية فقط ، فيكون تسعا وعشرين ، أو بتكملة ثلاثين فلا نحتاج مع الثلاثين إلى تكلف رؤية .

                                                                                      وأما الشعر : فنزهه الله -تعالى- عن الشعر ، قال تعالى : وما علمناه الشعر وما ينبغي له فما قال الشعر مع كثرته وجودته في قريش ، وجريان قرائحهم به ، وقد يقع شيء نادر في كلامه -عليه السلام- موزونا ، فما صار بذلك شاعرا قط ، كقوله : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وقوله : هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت [ ص: 193 ] ومثل هذا قد يقع في كتب الفقه والطب وغير ذلك مما يقع اتفاقا ، ولا يقصده المؤلف ولا يشعر به ، أفيقول مسلم قط : إن قوله تعالى : وجفان كالجوابي وقدور راسيات هو بيت ؟ ! معاذ الله ! وإنما صادف وزنا في الجملة ، والله أعلم .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية