الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر غزوة أحد

وفيها في شوال لسبع ليال خلون منه كانت وقعة أحد ، وقيل للنصف منه ، وكان الذي هاجها وقعة بدر ، فإنه لما أصيب من المشركين من أصيب ببدر مشى عبد الله بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية ، وغيرهم ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم بها ، فكلموا أبا سفيان ومن كان له في تلك العير تجارة ، وسألوهم أن يعينوهم بذلك المال على حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدركوا ثأرهم منهم ففعلوا . [ ص: 40 ] وتجهز الناس وأرسلوا أربعة نفر ، وهم : عمرو بن العاص ، وهبيرة بن أبي وهب ، وابن الزبعرى ، وأبو عزة الجمحي ، فساروا في العرب ليستنفروهم ، فجمعوا جمعا من ثقيف وكنانة وغيرهم ، واجتمعت قريش بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وتهامة ، ودعا جبير بن مطعم غلامه وحشي بن حرب ، وكان حبشيا يقذف بالحربة قل ما يخطئ ، فقال له : اخرج مع الناس ، فإن قتلت عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق .

وخرجوا معهم بالظعن لئلا يفروا ، وكان أبو سفيان قائد الناس ، فخرج بزوجته هند بنت عتبة ، وغيره من رؤساء قريش خرجوا بنسائهم ، خرج عكرمة بن أبي جهل بزوجته أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، وخرج الحارث بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة أخت خالد ، وخرج صفوان بن أمية ببريرة ، وقيل : برزة بنت مسعود الثقفية أخت عروة بن مسعود ، وهي أم ابنه عبد الله بن صفوان ، وخرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبه بن الحجاج ، وهي أم ولده عبيد الله بن عمرو ، وخرج طلحة بن أبي طلحة بسلافة بنت سعد ، وهي أم بنيه مسافع والجلاس وكلاب وغيرهم .

وكان مع النساء الدفوف يبكين على قتلى بدر يحرضن بذلك المشركين .

وكان مع المشركين أبو عامر الراهب الأنصاري ، وكان خرج إلى مكة مباعدا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه خمسون غلاما من الأوس ، وقيل كانوا خمسة عشر ، وكان يعد قريشا أنه لو لقي محمدا لم يتخلف عنه من الأوس رجلان . فلما التقى الناس بأحد كان أبو عامر أول من لقي في الأحابيش وعبدان أهل مكة ، فنادى : يا معشر الأوس ، أنا أبو عامر . فقالوا : فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق ! فقال : لقد أصاب قومي بعدي شر ، ثم قاتلهم قتالا شديدا حتى راضخهم بالحجارة . وكانت هند كلما مرت بوحشي أو مر بها قالت له : يا أبا دسمة ، اشف واستشف ، وكان يكنى أبا دسمة . فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة .

فلما سمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون قال : إني رأيت بقرا فأولتها خيرا ، [ ص: 41 ] ورأيت في ذباب سيفي ثلما ، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم ، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام ، وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها .

وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره الخروج ، وأشار بالخروج جماعة ممن استشهد يومئذ .

وأقامت قريش يوم الأربعاء والخميس والجمعة ، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين صلى الجمعة فالتقوا يوم السبت نصف شوال . فلما لبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلاحه وخرج ندم الذين كانوا أشاروا بالخروج إلى قريش وقالوا : استكرهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونشير عليه ، فالوحي يأتيه فيه ، فاعتذروا إليه وقالوا : اصنع ما شئت . فقال : لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل .

فخرج في ألف رجل ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، فلما كان بين المدينة وأحد عاد عبد الله بن أبي بثلث الناس ، فقال : أطاعهم وعصاني ، وكان يذكر من تبعه أهل النفاق والريب ، واتبعهم عبد الله بن حرام أخو بني سلمة يذكرهم الله أن لا يخذلوا نبيهم ، فقالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، وانصرفوا . فقال : أبعدكم الله أعداء الله ! فسيغني الله عنكم !

وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبعمائة ، فسار في حرة بني حارثة وبين أموالهم ، فمر بمال رجل من المنافقين يقال له مربع بن قيظي ، وكان ضرير البصر ، فلما سمع حس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه قام يحثي التراب في وجوههم ويقول : إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي ، وأخذ حفنة من تراب في يده وقال : لو أعلم أني لا أصيب غيرك لضربت به وجهك . فابتدروه ليقتلوه ، فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم : لا تفعلوا ؛ فهذا الأعمى أعمى البصر والقلب . فضربه سعد بن زيد بقوس فشجه .

وذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف صاحبه ، فاستله ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم : [ ص: 42 ] سيوفكم ، فإني أرى السيوف ستسل اليوم .

وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل بعدوة الوادي ، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد .

وكان المشركون ثلاثة آلاف ، منهم سبعمائة دارع ، والخيل مائتي فرس ، والظعن خمس عشرة امرأة ، وكان المسلمون مائة دارع ، ولم يكن من الخيل غير فرسين ، فرس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفرس لأبي بردة بن نيار ، وعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المقاتلة فرد زيد بن ثابت ، وابن عمر ، وأسيد بن حضير ، والبراء بن عازب ، وعرابة بن أوس ، وأبا سعيد الخدري وغيرهم ، وأجاز جابر بن سمرة ، ورافع بن خديج .

وأرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول : خلوا بيننا وبين ابن عمنا ، فننصرف عنكم فلا حاجة بنا إلى قتالكم . فردوا عليه بما يكره .

وتعبأ المشركون فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ، وكان لواؤهم مع بني عبد الدار ، فقال لهم أبو سفيان : إنما يؤتى الناس من قبل راياتهم ، فإما أن تكفونا وإما أن تخلوا بيننا وبين اللواء . يحرضهم بذلك . فقالوا : ستعلم إذا التقينا كيف نصنع . وذلك أراد .

واستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وترك أحدا خلف ظهره ، وجعل وراءه الرماة ، وهم خمسون رجلا ، وأمر عليهم عبد الله بن جبير ، أخا خوات بن جبير ، وقال له : انضح عنا الخيل بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا ، واثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا . وظاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين درعين ، وأعطى اللواء مصعب بن عمير ، وأمر الزبير على الخيل ومعه المقداد ، وخرج حمزة بالجيش بين يديه .

وأقبل خالد وعكرمة فلقيهما الزبير والمقداد فهزما المشركين ، وحمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فهزموا أبا سفيان ، وخرج طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين وقال : يا معشر أصحاب محمد ، إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة ، فهل أحد منكم يعجله سيفي إلى الجنة أو يعجلني سيفه إلى النار ؟ فبرز إليه علي بن أبي طالب فضربه علي فقطع رجله ، فسقط وانكشفت عورته ، فناشده الله والرحم فتركه ، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لعلي : ما منعك أن تجهز عليه ؟ قال : إنه [ ص: 43 ] ناشدني الله والرحم ، فاستحييت منه .

وكان بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيف ، فقال : من يأخذه بحقه ؟ فقام إليه رجال ، فأمسكه عنهم حتى قام أبو دجانة فقال : وما حقه يا رسول الله ؟ قال : تضرب به العدو حتى تثخن . قال أنا آخذه . فأعطاه إياه . وكان شجاعا ، وكان إذا أعلم بعصابة له حمراء علم الناس أنه يقاتل ، فعصب رأسه بها وأخذ السيف ، وجعل يتبختر بين الصفين . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن . فجعل لا يرتفع له شيء إلا حطمه حتى انتهى إلى نسوة في سفح الجبل معهن دفوف لهن فيهن امرأة تقول :

نحن بنات طارق نمشي على النمارق إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق     أو تدبروا نفارق فراق غير وامق



وتقول أيضا :


إيها بني عبد الدار     إيها حماة الديار ضربا بكل بتار



فرفع السيف ليضربها ، ثم أكرم سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضرب به امرأة . وكانت المرأة هند ، والنساء معها يضربن بالدفوف خلف الرجال يحرضن .

واقتتل الناس قتالا شديدا ، وأمعن في الناس حمزة وعلي ، وأبو دجانة في رجال المسلمين ، وأنزل الله نصره على المسلمين ، وكانت الهزيمة على المشركين ، وهرب النساء مصعدات في الجبل ، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون . فلما نظر بعض الرماة [ ص: 44 ] إلى العسكر حين انكشف الكفار عنه أقبلوا يريدون النهب ، وثبت طائفة وقالوا : نطيع رسول الله ونثبت مكاننا ، فأنزل الله : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ، يعني اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قال ابن مسعود : وما علمت أن أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد الدنيا حتى نزلت الآية .

فلما فارق بعض الرماة مكانهم رأى خالد بن الوليد قلة من بقي من الرماة ، فحمل عليهم فقتلهم ، وحمل على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلفهم . فلما رأى المشركون خيلهم تقاتل تبادروا ، فشدوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم .

وقد كان المسلمون قتلوا أصحاب اللواء ، فبقي مطروحا لا يدنو منه أحد ، فأخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته ، فاجتمعت قريش حوله ، وأخذه صؤاب فقتل عليه ، وكان الذي قتل أصحاب اللواء علي ، قاله أبو رافع ، قال : فلما قتلهم أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من المشركين ، فقال لعلي : احمل عليهم ، ففرقهم وقتل فيهم ، ثم أبصر جماعة أخرى فقال له : احمل عليهم ، فحمل عليهم وفرقهم وقتل فيهم ، فقال جبرائيل : يا رسول الله ، هذه المؤاساة ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إنه مني وأنا منه . فقال جبرائيل : وأنا منكما . قال : فسمعوا صوتا : لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا علي .

وكسرت رباعية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السفلى ، وشقت شفته ، وكلم في وجنته وجبهته في أصول شعره ، وعلاه ابن قمئة بالسيف ، وكان هو الذي أصابه ، وقيل : أصابه عتبة بن أبي وقاص ، وقيل : عبد الله بن شهاب الزهري جد محمد بن مسلم .

وقيل : إن عتبة بن أبي وقاص ، وابن قمئة الليثي الأدرمي ، من بني تيم بن غالب - وكان أدرم ناقص الذقن - وأبي بن خلف الجمحي ، وعبد الله بن حميد الأسدي ، أسد قريش تعاقدوا على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فأما ابن شهاب فأصاب [ ص: 45 ] جبهته ، وأما عتبة فرماه بأربعة أحجار فكسر رباعيته اليمنى ، وشق شفته ، وأما ابن قمئة ، فكلم وجنته ودخل من حلق المغفر فيها ، وعلاه بالسيف فلم يطق أن يقطعه ، فسقط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجحشت ركبته ، وأما أبي بن خلف فشد عليه بحربة ، فأخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه وقتله بها ، وقيل : بل كانت حربة الزبير أخذها منه ، وقيل : أخذها من الحارث بن الصمة ، وأما عبد الله بن حميد فقتله أبو دجانة الأنصاري .

التالي السابق


الخدمات العلمية