الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        بسم الله الرحمن الرحيم أبواب صدقة الفطر باب فرض صدقة الفطر ورأى أبو العالية وعطاء وابن سيرين صدقة الفطر فريضة

                                                                                                                                                                                                        1432 حدثنا يحيى بن محمد بن السكن حدثنا محمد بن جهضم حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب فرض صدقة الفطر ) كذا للمستملي ، واقتصر الباقون على " باب " وما بعده ، ولأبي نعيم : " كتاب " بدل باب ، وأضيفت الصدقة للفطر لكونها تجب بالفطر من رمضان . وقال ابن قتيبة : المراد بصدقة الفطر صدقة النفوس ، مأخوذة من الفطرة التي هي أصل الخلقة . والأول أظهر . ويؤيده قوله في بعض طرق الحديث كما سيأتي : " زكاة الفطر من رمضان " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ورأى أبو العالية وعطاء وابن سيرين صدقة الفطر فريضة ) وصله عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، ووصله ابن أبي شيبة من طريق عاصم الأحول عن الآخرين . وإنما اقتصر البخاري على ذكر هؤلاء الثلاثة لكونهم صرحوا بفرضيتها ، وإلا فقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك ، لكن الحنفية يقولون بالوجوب دون الفرض على قاعدتهم في التفرقة . وفي نقل الإجماع مع ذلك نظر ، لأن إبراهيم بن علية ، وأبا بكر بن كيسان الأصم قالا : إن وجوبها نسخ ، واستدل لهما بما روى النسائي وغيره عن قيس بن سعد بن عبادة ، قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله . وتعقب بأن في إسناده راويا مجهولا ، وعلى تقدير الصحة فلا دليل [ ص: 431 ] فيه على النسخ لاحتمال الاكتفاء بالأمر الأول ، لأن نزول فرض لا يوجب سقوط فرض آخر . ونقل المالكية عن أشهب أنها سنة مؤكدة ، وهو قول بعض أهل الظاهر وابن اللبان من الشافعية ، وأولوا قوله : " فرض " . في الحديث بمعنى قدر ، قال ابن دقيق العيد : هو أصله في اللغة ، لكن نقل في عرف الشرع إلى الوجوب ، فالحمل عليه أولى . انتهى . ويؤيده تسميتها زكاة ، وقوله في الحديث : على كل حر وعبد . والتصريح بالأمر بها في حديث قيس بن سعد وغيره ، ولدخولها في عموم قوله تعالى : وآتوا الزكاة ، فبين صلى الله عليه وسلم تفاصيل ذلك ، ومن جملتها زكاة الفطر ، وقال الله تعالى : قد أفلح من تزكى وثبت أنها نزلت في زكاة الفطر ، وثبت في الصحيحين إثبات حقيقة الفلاح لمن اقتصر على الواجبات ، قيل : وفيه نظر ، لأن في الآية : وذكر اسم ربه فصلى فيلزم وجوب صلاة العيد ، ويجاب بأنه خرج بدليل عموم : " هن خمس لا يبدل القول لدي " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا محمد بن جهضم ) بالجيم والضاد المعجمة وزن جعفر ، وعمر بن نافع هو مولى ابن عمر ، ثقة ، ليس له في البخاري سوى هذا الحديث ، وآخر في النهي عن القزع .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( زكاة الفطر ) زاد مسلم من رواية مالك ، عن نافع : " من رمضان " . واستدل به على أن وقت وجوبها غروب الشمس ليلة الفطر ، لأنه وقت الفطر من رمضان ، وقيل : وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد ، لأن الليل ليس محلا للصوم ، وإنما يتبين الفطر الحقيقي بالأكل بعد طلوع الفجر ، والأول قول الثوري ، وأحمد وإسحاق والشافعي في الجديد وإحدى الروايتين عن مالك ، والثاني قول أبي حنيفة والليث والشافعي في القديم ، والرواية الثانية عن مالك ، ويقويه قوله في حديث الباب : وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة . قال المازري : قيل إن الخلاف ينبني على أن قوله : " الفطر من رمضان " الفطر المعتاد في سائر الشهر ، فيكون الوجوب بالغروب ، أو الفطر الطارئ بعد ، فيكون بطلوع الفجر . وقال ابن دقيق العيد : الاستدلال بذلك لهذا الحكم ضعيف ، لأن الإضافة إلى الفطر لا تدل على وقت الوجوب ، بل تقتضي إضافة هذه الزكاة إلى الفطر من رمضان ، وأما وقت الوجوب فيطلب من أمر آخر ، وسيأتي شيء من ذلك في " باب الصدقة قبل العيد " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( صاعا من تمر أو صاعا من شعير ) انتصب " صاعا " على التمييز أو أنه مفعول ثان ، ولم تختلف الطرق عن ابن عمر في الاقتصار على هذين الشيئين ، إلا ما أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما من طريق عبد العزيز بن أبي داود ، عن نافع ، فزاد فيه : السلت والزبيب ، فأما السلت فهو بضم المهملة وسكون اللام بعدها مثناة : نوع من الشعير ، وأما الزبيب فسيأتي ذكره في حديث أبي سعيد ، وأما حديث ابن عمر ، فقد حكم مسلم في كتاب التمييز على عبد العزيز فيه بالوهم ، وسنذكر البحث في ذلك في الكلام على حديث أبي سعيد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( على العبد والحر ) ظاهره إخراج العبد عن نفسه ، ولم يقل به إلا داود فقال : يجب على السيد أن يمكن العبد من الاكتساب لها ، كما يجب عليه أن يمكنه من الصلاة ، وخالفه أصحابه والناس ، واحتجوا بحديث أبي هريرة مرفوعا : ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر . أخرجه مسلم ، وفي رواية له : ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر في الرقيق . وقد تقدم من عند البخاري قريبا بغير الاستثناء ، [ ص: 432 ] ، ومقتضاه أنها على السيد ، وهل تجب عليه ابتداء أو تجب على العبد ثم يتحملها السيد ؟ وجهان للشافعية ، وإلى الثاني نحا البخاري ، كما سيأتي في الترجمة التي تلي هذه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( والذكر والأنثى ) ظاهره وجوبها على المرأة سواء كان لها زوج أم لا ، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وابن المنذر ، وقال مالك والشافعي والليث وأحمد وإسحاق : تجب على زوجها إلحاقا بالنفقة . وفيه نظر ، لأنهم قالوا : إن أعسر وكانت الزوجة أمة وجبت فطرتها على السيد بخلاف النفقة فافترقا ، واتفقوا على أن المسلم لا يخرج عن زوجته الكافرة مع أن نفقتها تلزمه ، وإنما احتج الشافعي بما رواه من طريق محمد بن علي الباقر مرسلا نحو حديث ابن عمر ، وزاد فيه : " ممن تمونون " وأخرجه البيهقي من هذا الوجه ، فزاد في إسناده ذكر علي وهو منقطع أيضا . وأخرجه من حديث ابن عمر ، وإسناده ضعيف أيضا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( والصغير والكبير ) ظاهره وجوبها على الصغير ، لكن المخاطب عنه وليه ، فوجوبها على هذا في مال الصغير ، وإلا فعلى من تلزمه نفقته ، وهذا قول الجمهور ، وقال محمد بن الحسن : هي على الأب مطلقا ، فإن لم يكن له أب فلا شيء عليه ، وعن سعيد بن المسيب والحسن البصري : لا تجب إلا على من صام ، واستدل لهما بحديث ابن عباس مرفوعا : صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث . أخرجه أبو داود . وأجيب بأن ذكر التطهير خرج على الغالب كما أنها تجب على من لم يذنب كمتحقق الصلاح أو من أسلم قبل غروب الشمس بلحظة ، ونقل ابن المنذر الإجماع على أنها لا تجب على الجنين ، قال : وكان أحمد يستحبه ولا يوجبه ، ونقل بعض الحنابلة رواية عنه بالإيجاب ، وبه قال ابن حزم ، لكن قيده بمائة وعشرين يوما من يوم حمل أمه به ، وتعقب بأن الحمل غير محقق ، وبأنه لا يسمى صغيرا لغة ولا عرفا ، واستدل بقوله في حديث ابن عباس : طهرة للصائم . على أنها تجب على الفقير كما تجب على الغني ، وقد ورد ذلك صريحا في حديث أبي هريرة عند أحمد ، وفي حديث ثعلبة بن أبي صغير عند الدارقطني ، وعن الحنفية لا تجب إلا على من ملك نصابا ، ومقتضاه أنها لا تجب على الفقير على قاعدتهم في الفرق بين الغني والفقير ، واستدل لهم بحديث أبي هريرة المتقدم : لا صدقة إلا عن ظهر غنى . واشترط الشافعي ومن تبعه أن يكون ذلك فاضلا عن قوت يومه ومن تلزمه نفقته . وقال ابن بزيزة : لم يدل دليل على اعتبار النصاب فيها ، لأنها زكاة بدنية لا مالية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( من المسلمين ) فيه رد على من زعم أن مالكا تفرد بها ، وسيأتي بسط ذلك في الأبواب التي بعده .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وأمر بها . . . إلخ ) استدل بها على كراهة تأخيرها عن ذلك ، وحمله ابن حزم على التحريم ، وسيأتي البحث في ذلك بعد أبواب .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية