الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم

لما تتابع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة أقام هو بمكة ينتظر ما يؤمر به من ذلك ، وتخلف معه علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق . فلما رأت قريش ذلك حذروا خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتمعوا في دار الندوة ، وهي دار قصي بن كلاب ، وتشاوروا فيها فدخل معهم إبليس في صورة شيخ وقال : أنا من أهل نجد سمعت بخبركم فحضرت ، وعسى أن لا تعدموا مني رأيا .

وكانوا : عتبة ، وشيبة ، وأبا سفيان ، وطعيمة بن عدي ، وحبيب بن مطعم ، والحارث بن عامر ، والنضر بن الحارث ، وأبا البختري بن هشام ، وربيعة بن الأسود ، وحكيم بن حزام ، وأبا جهل ، ونبيها ومنبها ابني الحجاج ، وأمية بن خلف ، وغيرهم .

فقال بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد كان من أمره ما كان ، وما نأمنه على الوثوب علينا بمن اتبعه ، فأجمعوا فيه رأيا فقال بعضهم : احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب الشعراء قبله . فقال النجدي : ما هذا لكم برأي ، لو حبستموه يخرج أمره من وراء الباب إلى أصحابه ، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم ، فينتزعوه من أيديكم . فقال آخر : نخرجه وننفيه من بلدنا ولا نبالي أين وقع إذا غاب عنا . فقال [ ص: 695 ] النجدي : ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه ؟ لو فعلتم ذلك لحل على حي من أحياء العرب فيغلب عليهم بحلاوة منطقه ، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم ويأخذ أمركم من أيديكم . فقال أبو جهل : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى نسيبا ، ونعطي كل فتى منهم سيفا ، ثم يضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه ، فإذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها ، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا ، ورضوا منا بالعقل . فقال النجدي : القول ما قال الرجل ، هذا الرأي ! فتفرقوا على ذلك .

فأتى جبرائيل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : لا تبت الليلة على فراشك . فلما كان العتمة اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه ، فلما رآهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي بن أبي طالب : نم على فراشي واتشح ببردي الأخضر ، فنم فيه فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه ، وأمره أن يؤدي ما عنده من وديعة وأمانة وغير ذلك .

وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ حفنة من تراب فجعله على رءوسهم وهو يتلو هذه الآيات من ( يس والقرآن الحكيم ) ، إلى قوله : ( فهم لا يبصرون ) . ثم انصرف فلم يروه ، فأتاهم آت فقال : ما تنتظرون ؟ فقالوا : محمدا . قال : خيبكم الله ، خرج عليكم ولم يترك أحدا منكم إلا جعل على رأسه التراب وانطلق لحاجته ! فوضعوا أيديهم على رءوسهم فرأوا التراب ، وجعلوا ينظرون فيرون عليا نائما وعليه برد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقولون : إن محمدا لنائم ، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا . فقام علي عن الفراش ، فعرفوه ، وأنزل الله في ذلك : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ) الآية .

وسأل أولئك الرهط عليا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : لا أدري ، أمرتموه بالخروج فخرج . فضربوه وأخرجوه إلى المسجد فحبسوه ساعة ثم تركوه ، ونجى الله رسوله من مكرهم وأمره بالهجرة ، وقام علي يؤدي أمانة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويفعل ما أمره .

وقالت عائشة : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يخطئه أحد طرفي النهار أن يأتي بيت أبي بكر إما بكرة أو عشية ، حتى كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله بالهجرة فأتانا بالهاجرة ، فلما رآه أبو بكر قال : ما جاء هذه الساعة إلا لأمر حدث . فلما دخل جلس [ ص: 696 ] على السرير وقال : أخرج من عندك . قال : يا رسول الله إنما هما ابنتاي ، وما ذاك ؟ قال : إن الله قد أذن لي في الخروج . فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله ؟ ! قال : الصحبة ، فبكى أبو بكر من الفرح ، فاستأجرا عبد الله بن أرقد ، من بني الديل بن بكر ، وكان مشركا ، يدلهما على الطريق ، ولم يعلم بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير أبي بكر وعلي وآل أبي بكر ، فأما علي فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتخلف عنه حتى يؤدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الودائع التي كانت عنده ثم يلحقه .

وخرجا من خوخة في بيت أبي بكر في ظهر بيته ، ثم عمدا إلى غار بثور فدخلاه ، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع لهما بمكة نهاره ثم يأتيهما ليلا ، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يأتيهما بها ليلا ، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بطعامهما مساء ، فأقاما في الغار ثلاثا .

وجعلت قريش مائة ناقة لمن رده عليهم .

وكان عبد الله بن أبي بكر إذا غدا من عندهما اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفي عليه . فلما مضت الثلاث وسكن الناس أتاهما دليلهما ببعيريهما ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدهما بالثمن فركبه ، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاما فحلت نطاقها فجعلته عصاما وعلقت السفرة به ، وكان يقال لأسماء : ذات النطاقين لذلك .

ثم ركبا وسارا ، وأردف أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة يخدمهما في الطريق ، فساروا ليلتهم ومن الغد إلى الظهر ، ورأوا صخرة طويلة ، فسوى أبو بكر عندها مكانا ليقيل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليستظل بظلها ، فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحرسه أبو بكر حتى رحلوا بعدما زالت الشمس .

وكانت قريش قد جعلت لمن يأتي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - دية ، فتبعهم سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي فلحقهم وهم في أرض صلبة ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، أدركنا الطلب ! فقال : ( لا تحزن إن الله معنا ) ودعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارتطمت فرسه [ ص: 697 ] إلى بطنها وثار من تحتها مثل الدخان . فقال : ادع لي محمد ليخلصني الله ، ولك علي أن أرد عنك الطلب ، فدعا له فتخلص ، فعاد يتبعهم ، فدعا عليه الثانية فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى ، فقال : يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك علي ، فادع لي ولك عهد الله أن أرد عنك الطلب . فدعا له فخلص وقرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له : يا رسول الله خذ سهما من كنانتي ، وإن إبلي بمكان كذا فخذ منها ما أحببت . فقال : لا حاجة لي في إبلك .

فلما أراد أن يعود عنه قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم : كيف بك يا سراقة إذا سورت بسواري كسرى ؟ قال : كسرىبن هرمز
؟ قال : نعم . فعاد سراقة فكان لا يلقاه أحد يريد الطلب إلا قال : كفيتم ما هاهنا ، ولا يلقى أحدا إلا رده .

قالت أسماء بنت أبي بكر : لما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل فوقفوا على باب أبي بكر فقالوا : أين أبوك ؟ قلت : لا أدري ، فرفع أبو جهل يده فلطم خدي لطمة طرح قرطي ، وكان فاحشا خبيثا . ومكثنا مليا لا ندري أين توجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى رجل من الجن من أسفل مكة ، والناس يتبعونه يسمعون صوته ولا يرون شخصه وهو يقول :

جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلا خيمتي أم معبد     هما نزلا بالهدي واغتديا به
فأفلح من أمسى رفيق محمد     ليهنئ بني كعب مكان فتاتهم
ومقعدها للمؤمنين بمرصد

[ ص: 698 ] قالت : فلما سمعنا قوله عرفنا أن وجهه كان إلى المدينة
.

وقدم بهما دليلهما قباء فنزل على بني عمرو بن عوف لاثني عشرة ليلة خلت من ربيع الأول يوم الاثنين حين كادت الشمس تعتدل ، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كلثوم بن الهدم ، أخي بني عمرو بن عوف ، وقيل : نزل على سعد بن خيثمة ، وكان عزبا ، وكان ينزل عنده العزاب من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يقال لبيته بيت العزاب ، والله أعلم .

ونزل أبو بكر على خبيب بن إساف بالسنح ، وقيل : نزل على خارجة بن زيد أخي بني الحارث بن الخزرج .

وأما علي فإنه لما فرغ من الذي أمره به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاجر إلى المدينة ، فكان يسير الليل ويكمن النهار ، حتى قدم المدينة وقد تفطرت قدماه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " ادعوا لي عليا " . قيل : لا يقدر أن يمشي . فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - واعتنقه ، وبكى رحمة لما بقدميه من الورم ، وتفل في يديه وأمرهما على قدميه ، فلم يشتكهما بعد حتى قتل . ونزل بالمدينة على امرأة لا زوج لها ، فرأى إنسانا يأتيها كل ليلة ويعطيها شيئا فاستراب بها ، فسألها عنه فقالت : هو سهل بن حنيف ، قد علم أني امرأة لا زوج لي فهو يكسر أصنام قومه ويحملها إلي ويقول : احتطبي بهذه . فكان علي يذكر ذلك عن سهل بن حنيف بعد موته .

وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة ، وقيل : أقام عندهم أكثر من ذلك . والله أعلم . وأدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي ببطن الوادي ، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة .

قال ابن عباس : ولد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين ، واستنبئ يوم الاثنين ، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين ، وهاجر يوم الاثنين ، وقبض يوم الاثنين .

[ ص: 699 ] واختلف العلماء في مقامه بمكة بعد أن أوحي إليه ، فقال أنس وابن عباس - رضي الله عنهما - من رواية أبي سلمة عنه - وعائشة : إنه أقام بمكة عشر سنين . ومثلهم قال من التابعين : ابن المسيب والحسن وعمر بن دينار . وقيل : أقام ثلاث عشرة سنة ، قاله ابن عباس من رواية أبي جمرة وعكرمة أيضا عنه ، ولعل الذي قال أقام عشر سنين أراد بعد إظهار الدعوة ، فإنه بقي سنين يسيرة ، ومما يقوي هذا القول قول صرمة بن أبي أنس الأنصاري ، شعر :

ثوى في قريش بضع عشرة حجة     يذكر لو يلقى صديقا مواتيا


فهذا يدل على مقامه ثلاث عشرة سنة لأنه قد زاد على عشرة سنين ، فلو كان خمس عشرة لصح الوزن ، وكذلك ست عشرة وسبع عشرة ، وحيث لم يستقم الوزن بأن يقول ثلاث عشرة قال : بضع عشرة ، ولم ينقل في مقامه زيادة على عشر سنين إلا ثلاث عشرة وخمس عشرة .

وقد روي عن قتادة قول غريب جدا ، وذلك أنه قال : نزل القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة ثماني سنين ، ولم يوافقه غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية