الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                    صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                    ( وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ( 42 ) يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ( 43 ) ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ( 44 ) )

                                                                                                                                                                                                    هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم ، عليها السلام ، عن أمر الله لهم بذلك : أن الله قد اصطفاها ، أي : اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهرها من الأكدار والوسواس واصطفاها ثانيا مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 40 ] قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب في قوله : ( إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) قال : كان أبو هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير نساء ركبن الإبل نساء قريش ، أحناه على ولد في صغره ، وأرعاه على زوج في ذات يده ، ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط " . لم يخرجوه من هذا الوجه ، سوى مسلم فإنه رواه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد كلاهما عن عبد الرزاق به .

                                                                                                                                                                                                    وقال هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن جعفر ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد " . أخرجاه في الصحيحين ، من حديث هشام ، به مثله .

                                                                                                                                                                                                    وقال الترمذي : حدثنا أبو بكر بن زنجويه ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " حسبك من نساء العالمين مريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وآسية امرأة فرعون . " تفرد به الترمذي وصححه .

                                                                                                                                                                                                    وقال عبد الله بن أبي جعفر الرازي ، عن أبيه قال : كان ثابت البناني يحدث عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خير نساء العالمين أربع ، مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] رواه ابن مردويه .

                                                                                                                                                                                                    وروى ابن مردويه من طريق شعبة ، عن معاوية بن قرة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث : مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 41 ] وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا آدم العسقلاني ، حدثنا شعبة ، حدثنا عمرو بن مرة ، سمعت مرة الهمداني بحديث عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون " . وقد أخرجه الجماعة إلا أبا داود من طرق عن شعبة به ولفظ البخاري : " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " .

                                                                                                                                                                                                    وقد استقصيت طرق هذا الحديث وألفاظه في قصة عيسى ابن مريم عليهما السلام ، في كتابنا " البداية والنهاية " ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                    ثم أخبر تعالى عن الملائكة : أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والخضوع والسجود والركوع والدءوب في العمل لها ، لما يريد الله [ تعالى ] بها من الأمر الذي قدره وقضاه ، مما فيه محنة لها ورفعة في الدارين ، بما أظهر الله تعالى فيها من قدرته العظيمة ، حيث خلق منها ولدا من غير أب ، فقال تعالى : ( يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ) أما القنوت فهو الطاعة في خشوع كما قال تعالى : ( بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون ) [ البقرة : 116 ] .

                                                                                                                                                                                                    وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث : أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة " . ورواه ابن جرير من حديث ابن لهيعة ، عن دراج ، به ، وفيه نكارة

                                                                                                                                                                                                    وقال مجاهد : كانت مريم ، عليها السلام ، تقوم حتى تتورم كعباها ، والقنوت هو : طول الركوع في الصلاة ، يعني امتثالا لقوله تعالى : ( يا مريم اقنتي لربك ) بل قال الحسن : يعني اعبدي لربك ( واسجدي واركعي مع الراكعين ) أي : كوني منهم .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 42 ] وقال الأوزاعي : ركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة ، حتى نزل الماء الأصفر في قدميها ، رضي الله عنها .

                                                                                                                                                                                                    وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمتها من طريق محمد بن يونس الكديمي - وفيه مقال - : حدثنا علي بن بحر بن بري ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير في قوله : ( يا مريم اقنتي لربك واسجدي ) قال : سجدت حتى نزل الماء الأصفر في عينيها .

                                                                                                                                                                                                    وذكر ابن أبي الدنيا : حدثنا الحسن بن عبد العزيز ، حدثنا ضمرة ، عن ابن شوذب قال : كانت مريم ، عليها السلام ، تغتسل في كل ليلة .

                                                                                                                                                                                                    ثم قال تعالى لرسوله [ عليه أفضل الصلوات والسلام ] بعدما أطلعه على جلية الأمر : ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ) أي : نقصه عليك ( وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ) أي : ما كنت عندهم يا محمد فتخبرهم عنهم معاينة عما جرى ، بل أطلعك الله على ذلك كأنك كنت حاضرا وشاهدا لما كان من أمرهم حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها ، وذلك لرغبتهم في الأجر .

                                                                                                                                                                                                    قال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن القاسم بن أبي بزة ، أنه أخبره عن عكرمة - وأبي بكر ، عن عكرمة - قال : ثم خرجت بها - يعني أم مريم بمريم - تحملها في خرقها إلى بني الكاهن بن هارون أخي موسى ، عليهما السلام - قال : وهم يومئذ يلون في بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة - فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فإني حررتها وهي ابنتي ، ولا تدخل الكنيسة حائض ، وأنا لا أردها إلى بيتي ؟ فقالوا هذه ابنة إمامنا - وكان عمران يؤمهم في الصلاة - وصاحب قرباننا ، فقال زكريا : ادفعوها إلي : فإن خالتها تحتي . فقالوا : لا تطيب أنفسنا ، هي ابنة إمامنا فذلك حين اقترعوا بأقلامهم عليها التي يكتبون بها التوراة ، فقرعهم زكريا ، فكفلها

                                                                                                                                                                                                    وقد ذكر عكرمة أيضا ، والسدي ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وغير واحد - دخل حديث بعضهم في بعض - أنهم دخلوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم [ فيه ] فأيهم ثبت في جرية الماء فهو كافلها ، فألقوا أقلامهم فاحتملها الماء إلا قلم زكريا ثبت . ويقال : إنه ذهب صعدا يشق جرية الماء ، وكان مع ذلك كبيرهم وسيدهم ، وعالمهم وإمامهم ونبيهم صلوات الله [ ص: 43 ] وسلامه عليه سائر النبيين والمرسلين .

                                                                                                                                                                                                    التالي السابق


                                                                                                                                                                                                    الخدمات العلمية