الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              38 - عمير بن سعد

              ومنهم عمير بن سعد الحافظ للعهد الوافي بالوعد ، اللقن الحفيظ الخشن الغليظ ، جمال الولاة وحجة الله على الرعاة . يقال له : نسيج وحده .

              حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا محمد بن المرزبان الأدمي ، ثنا محمد بن حكيم الرازي ، ثنا عبد الملك بن هارون بن عنترة ، حدثني أبي ، عن جدي ، عن عمير بن سعد الأنصاري ، قال : بعثه عمر بن الخطاب عاملا على حمص فمكث حولا [ ص: 248 ] لا يأتيه خبره ، فقال عمر لكاتبه : اكتب إلى عمير - فوالله ما أراه إلا قد خاننا - : إذا جاءك كتابي هذا فأقبل ، وأقبل بما جبيت من فيء المسلمين حين تنظر في كتابي هذا . فأخذ عمير جرابه فجعل فيه زاده وقصعته ، وعلق إداوته ، وأخذ عنزته ثم أقبل يمشي من حمص حتى دخل المدينة ، قال : فقدم وقد شحب لونه واغبر وجهه وطالت شعرته . فدخل على عمر وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، فقال عمر : ما شأنك ؟ فقال عمير : ما ترى من شأني ألست تراني صحيح البدن طاهر الدم ، معي الدنيا أجرها بقرنها ؟ قال : وما معك ؟ فظن عمر رضي الله عنه أنه قد جاء بمال ، فقال : معي جرابي أجعل فيه زادي ، وقصعتي آكل فيها وأغسل فيها رأسي وثيابي ، وإداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي ، وعنزتي أتوكأ عليها وأجاهد بها عدوا إن عرض ، فوالله ما الدنيا إلا تبع لمتاعي . قال عمر : فجئت تمشي ؟ قال : نعم ، قال : أما كان لك أحد يتبرع لك بدابة تركبها ؟ قال : ما فعلوا وما سألتهم ذلك . فقال عمر : بئس المسلمون خرجت من عندهم ، فقال له عمير : اتق الله يا عمر ، قد نهاك الله عن الغيبة ، وقد رأيتهم يصلون صلاة الغداة ، قال عمر : فأين بعثتك ؟ وأي شيء صنعت ؟ قال : وما سؤالك يا أمير المؤمنين ، فقال عمر : سبحان الله ، فقال عمير : أما لولا أني أخشى أن أغمك ما أخبرتك ، بعثتني حتى أتيت البلد فجمعت صلحاء أهلها فوليتهم جباية فيئهم ، حتى إذا جمعوه وضعته مواضعه ، ولو نالك منه شيء لأتيتك به ، قال : فما جئتنا بشيء ؟ قال : لا ، قال : جددوا لعمير عهدا ، قال : إن ذلك لشيء ، لا عملت لك ولا لأحد بعدك ، والله ما سلمت بل لم أسلم ، لقد قلت لنصراني : أي أخزاك الله ، فهذا ما عرضتني له يا عمر ، وإن أشقى أيامي يوم خلفت معك يا عمر ، فاستأذنه فأذن له فرجع إلى منزله ، قال : وبينه وبين المدينة أميال ، فقال عمر حين انصرف عمير : ما أراه إلا قد خاننا . فبعث رجلا يقال له الحارث ، وأعطاه مائة دينار ، فقال له : انطلق إلى عمير حتى تنزل به كأنك ضيف ، فإن رأيت أثر شيء فأقبل وإن رأيت حالة شديدة [ ص: 249 ] فادفع إليه هذه المائة الدينار . فانطلق الحارث فإذا هو بعمير جالس يفلي قميصه إلى جانب الحائط ، فسلم عليه الرجل ، فقال له عمير : انزل رحمك الله ، فنزل ثم سأله فقال : من أين جئت ؟ قال : من المدينة . قال : فكيف تركت أمير المؤمنين ؟ قال : صالحا . قال : فكيف تركت المسلمين ؟ قال : صالحين . قال : أليس يقيم الحدود ؟ قال : بلى ، ضرب ابنا له أتى فاحشة فمات من ضربه . فقال عمير : اللهم أعن عمر فإني لا أعلمه إلا شديدا حبه لك ، قال : فنزل به ثلاثة أيام وليس لهم إلا قرصة من شعير كانوا يخصونه بها ويطوون ، حتى أتاهم الجهد ، فقال له عمير : إنك قد أجعتنا ، فإن رأيت أن تتحول عنا فافعل . قال : فأخرج الدنانير فدفعها إليه ، فقال : بعث بها إليك أمير المؤمنين فاستعن بها . قال : فصاح وقال : لا حاجة لي فيها ، ردها . فقالت له امرأته : إن احتجت إليها وإلا فضعها مواضعها ، فقال عمير : والله ما لي شيء أجعلها فيه . فشقت امرأته أسفل درعها فأعطته خرقة فجعلها فيها ، ثم خرج فقسمها بين أبناء الشهداء والفقراء ، ثم رجع والرسول يظن أنه يعطيه منها شيئا ، فقال له عمير : أقرئ مني أمير المؤمنين السلام . فرجع الحارث إلى عمر ، فقال : ما رأيت ؟ قال : رأيت يا أمير المؤمنين حالا شديدا ، قال : فما صنع بالدنانير ؟ قال : لا أدري . قال : فكتب إليه عمر : إذا جاءك كتابي هذا فلا تضعه من يدك حتى تقبل . فأقبل إلى عمر رضي الله تعالى عنه فدخل عليه ، فقال له عمر : ما صنعت بالدنانير ؟ قال : صنعت ما صنعت وما سؤالك عنها ؟ قال : أنشد عليك لتخبرني ما صنعت بها ، قال : قدمتها لنفسي ، قال : رحمك الله ، فأمر له بوسق من طعام وثوبين ، فقال : أما الطعام فلا حاجة لي فيه ، قد تركت في المنزل صاعين من شعير إلى أن آكل ذلك قد جاء الله تعالى بالرزق ، ولم يأخذ الطعام ، وأما الثوبان فقال : إن أم فلان عارية ، فأخذهما ورجع إلى منزله . فلم يلبث أن هلك رحمه الله ، فبلغ عمر ذلك فشق عليه وترحم عليه ، فخرج يمشي ومعه المشاءون إلى بقيع الغرقد ، فقال لأصحابه : ليتمن كل رجل منكم أمنيته ، فقال رجل : وددت يا أمير المؤمنين أن عندي مالا فأعتق لوجه الله عز وجل كذا وكذا ، وقال آخر : وددت يا أمير المؤمنين أن عندي مالا فأنفق [ ص: 250 ] في سبيل الله ، وقال آخر : وددت لو أن لي قوة فأمتح بدلو زمزم لحجاج بيت الله ، فقال عمر : وددت أن لي رجلا مثل عمير بن سعد أستعين به في أعمال المسلمين .

              حدثنا عبد الله بن شعيب ، ثنا عبد الله بن محمد البغوي ، ثنا عبيد الله بن محمد بن حفص ، ثنا حماد بن سلمة ، عن أبي سنان ، عن أبي طلحة الخولاني ، قال : أتينا عمير بن سعد في داره بفلسطين . وكان يقال له : نسيج وحده . فإذا هو على دكان عظيم في الدار ، وفي الدار حوض من حجارة ، فقال له : يا غلام أورد الخيل ، فأوردها ، فقال : أين الفلانة ؟ قال عبيد الله : سمى الفرس فلانة لأنها أنثى - فقال : جربة تقطر دما ، قال : أوردها ، قال : إذا تجرب الخيل ، قال : أوردها ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا عدوى ولا طيرة ولا هام ) ألم تر إلى البعير يكون بالصحراء فيصبح في كركرته أو مراقه نكتة من جرب لم تكن قبل ذلك ، فمن أعدى الأول ؟ .

              قال الشيخ : لا نعلم أسند عمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم غيره .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية