الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون .

لما أبطلت الآيات السابقة إلهية أصنام المشركين بالأدلة المتظاهرة فانقطع دابر عقيدة الإشراك ثني عنان الإبطال إلى أثر من آثار الشرك وهو ادعاء علم الغيب بالكهانة وإخبار الجن ، كما كان يزعمه الكهان والعرافون وسدنة الأصنام . ويؤمن بذلك المشركون . وفي معالم التنزيل وغيره نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة فما كان سؤالهم عن ذلك إلا لظنهم أن ادعاء العلم بوقتها من شأن النبوة توصلا لجحد النبوة إن لم يعين لهم وقت الساعة فأبطلت الآية هذه المزاعم إبطالا عاما معياره الاستثناء بقوله " إلا الله " . وهو عام مراد به الخصوص أعني خصوص الكهان وسدنة بيوت الأصنام . وإنما سلك مسلك العموم لإبطال ما عسى أن يزعم من ذلك ، ولأن العموم أكثر فائدة وأوجز ، فإن ذلك حال أهل الشرك من بين من في السماوات والأرض . فالقصد هنا تزييف آثار الشرك وهو الكهانة ونحوها . وإذ قد كانت المخلوقات لا يعدون أن يكونوا من أهل السماوات أو من أهل الأرض لانحصار عوالم الموجودات في ذلك كان قوله لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب في قوة لا يعلم أحد الغيب ، ولكن أطنب الكلام لقصد التنصيص على تعميم المخلوقات كلها فإن مقام علم العقيدة مقام بيان يناسبه الإطناب .

واستثناء إلا الله منه لتأويل من في السماوات والأرض بمعنى : أحد ، [ ص: 20 ] فهو استثناء متصل على رأي المحققين وهو واقع من كلام منفي . فحق المستثنى أن يكون بدلا من المستثنى منه في اللغة الفصحى فلذلك جاء اسم الجلالة مرفوعا ولو كان الاستثناء منقطعا لكانت اللغة الفصحى تنصب المستثنى .

وبعد فإن دلائل تنزيه الله عن الحلول في المكان وعن مماثلة المخلوقات متوافرة فلذلك يجري استعمال القرآن والسنة على سنن الاستعمال الفصيح للعلم بأن المؤمن لا يتوهم ما لا يليق بجلال الله تعالى . ومن المفسرين من جعل الاستثناء منقطعا وقوفا عند ظاهر صلة من في السماوات والأرض ؛ لأن الله ينزه عن الحلول في السماء والأرض .

وأما من يتفضل الله عليه بأن يظهره على الغيب فذلك داخل في علم الله قال تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول . فأضاف " غيب " إلى ضمير الجلالة .

وأردف هذا الخبر بإدماج انتفاء علم هؤلاء الزاعمين علم الغيب أنهم لا يشعرون بوقت بعثهم بل جحدوا وقوعه إثارة للتذكير بالبعث لشدة عناية القرآن بإثباته وتسفيه الذين أنكروه . فذلك موقع قوله وما يشعرون أيان يبعثون ، أي إن الذين يزعمون علم الغيب ما يشعرون بوقت بعثهم .

و " أيان " اسم استفهام عن الزمان وهو معلق فعل " يشعرون " عن العمل في مفعوليه . وهذا تورك وتعيير للمشركين فإنهم لا يؤمنون بالبعث بله شعورهم بوقته .

و " بل " للإضراب الانتقالي من الإخبار عنهم بـ ما يشعرون أيان يبعثون وهو ارتقاء إلى ما هو أغرب وأشد ارتقاء من تعييرهم بعدم شعورهم بوقت بعثهم إلى وصف علمهم بالآخرة التي البعث من أول أحوالها وهو الواسطة بينها وبين الدنيا بأنه علم متدارك أو مدرك .

وقرأ الجمهور ادارك بهمز وصل في أوله وتشديد الدال على أن أصله ( تدارك ) فأدغمت تاء التفاعل في الدال لقرب مخرجيهما بعد أن سكنت واجتلب [ ص: 21 ] همز الوصل للنطق بالساكن . قال الفراء وشمر : وهو تفاعل من الدرك بفتحتين وهو اللحاق . وقد امتلكت اللغويين والمفسرين حيرة في تصوير معنى الآية على هذه القراءة تثار منه حيرة للناظر في توجيه الإضرابين اللذين بعد هذا الإضراب وكيف يكونان ارتقاء على مضمون هذا الانتقال ، وذكروا وجوها مثقلة بالتكلف .

والذي أراه في تفسيرها على هذا الاعتبار اللغوي أن معنى التدارك هو أن علم بعضهم لحق علم بعض آخر في أمر الآخرة ؛ لأن العلم ، وهو جنس ، لما أضيف إلى ضمير الجماعة حصل من معناه علوم عديدة بعدد أصناف الجماعات التي هي مدلول الضمير فصار المعنى : تداركت علومهم بعضها بعضا .

وذلك صالح لمعنيين : أولهما أن يكون التدارك وهو التلاحق الذي هو استعمال مجازي يساوي الحقيقة ، أي تداركت علوم الحاضرين مع علوم أسلافهم ، أي تلاحقت وتتابعت فتلقى الخلف عن السلف علمهم في الآخرة وتقلدوها عن غير بصيرة ولا نظر ، وذلك أنهم أنكروا البعث ويشعر لذلك قوله تعالى عقبه وقال الذين كفروا إذا كنا ترابا وآباؤنا أانا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين . وقريب من هذا قوله تعالى في سورة المؤمنين بل قالوا مثل ما قال الأولون .

الوجه الثاني أن يكون التدارك مستعملا مجازا مرسلا في الاختلاط والاضطراب ؛ لأن التدارك والتلاحق يلزمه التداخل كما إذا لحقت جماعة من الناس جماعة أخرى أي لم يرسوا على أمر واختلفت أقوالهم اختلافا يؤذن بتناقضها ، فهم ينفون البعث ثم يزعمون أن الأصنام شفعاؤهم عند الله من العذاب ، وهذا يقتضي إثبات البعث ولكنهم لا يعذبون ثم يتزودون تارة للآخرة ببعض أعمالهم التي منها : أنهم كانوا يحبسون الراحلة على قبر صاحبها ويتركونها لا تأكل ولا تشرب حتى تموت فيزعمون أن صاحبها يركبها ويسمونها البلية فذلك من اضطراب أمرهم في الآخرة .

وفعل المضي على هذين الوجهين على أصله . وحرف " في " على هذين الوجهين في تفسيرها على قراءة الجمهور مستعمل في السببية ، أي بسبب الآخرة .

ويجوز وجه آخر وهو أن يكون " ادارك " مبالغة في ( أدرك ) ومفعوله محذوفا [ ص: 22 ] تقديره : إدراكهم ، أي حصل لهم علمهم بوقت بعثهم في اليوم الذي يبعثون فيه ، أي يومئذ يوقنون بالبعث ، فيكون فعل المضي مستعملا في معنى التحقق ، ويكون حرف " في " على أصله من الظرفية .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ( بل أدرك ) بهمز قطع وسكون الدال ، ومعناه ; انتهى علمهم في الآخرة . يقال أدرك ، إذا فني . وفي ثبوت معنى فني لفعل " أدرك " خلاف بين أيمة اللغة فقد أثبته ابن المظفر في رواية شمر عنه قال شمر : ولم أسمعه لغيره ، وأثبته الزمخشري في الكشاف في هذه الآية وصاحب القاموس . وقال أبو منصور : هذا غير صحيح في لغة العرب وما علمت أحدا قال : أدرك الشيء إذا فني . وأقول قد ثبت في اللغة : أدركت الثمار ، إذا انتهى نضجها . ونسبه في تاج العروس لليث ولابن جني وحسبك بإثبات هؤلاء الأثبات . قال الكواشي في تبصرة المتذكر : المعنى فني علمهم في الآخرة من أدركت الفاكهة ، إذا بلغت النضج وذلك مؤذن بفنائها وزوالها .

فحاصل المعنى على قراءة الجمهور وما يشعرون أيان يبعثون وقد تلقى بعضهم عن بعض ما يعلمون في شأن الآخرة وهو ما اشتهر عنهم من إنكار الحياة الآخرة ، أو قد اضطرب ما يعلمونه في شأن الآخرة وأنهم سيعلمون ذلك لا محالة في يوم الدار الآخرة .

وحاصل المعنى على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي جعفر : ما يشعرون أيان يبعثون فإنهم لا علم لهم بالحياة الآخرة ، أي جهلوا الحياة الآخرة .

أما عدد القراءات الشاذة في هذه الجملة فبلغت عشرا .

وأما جملة بل هم في شك منها فهو إضراب انتقال للارتقاء من كونهم اضطرب علمهم في الآخرة ، أو تقلد خلفهم ما لقنه سلفهم ، أو من أنهم انتفى علمهم في الآخرة إلى أن ذلك الاضطراب في العلم قد أثار فيهم شكا من وقوع الآخرة . و " من " للابتداء المجازي ، أي في شك ناشئ عن أمر الآخرة . وجيء بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات الخبر ودوامه ، والظرفية للدلالة على إحاطة الشك بهم .

[ ص: 23 ] وجملة بل هم منها عمون ارتقاء ثالث وهو آخر درجات الارتقاء في إثبات ضلالهم وهو أنهم عميان عن شأن الآخرة .

و " عمون " : جمع عم بالتنوين وهو فعل من العمى ، صاغوا له مثال المبالغة للدلالة على شدة العمى ، وهو تشبيه عدم العلم بالعمى ، وعادم العلم بالأعمى . وقال زهير :


وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم

فشبه ضلالهم عن البعث بالعمى في عدم الاهتداء إلى المطلوب تشبيه المعقول بالمحسوس .

و " من " في قوله منها عمون للابتداء المجازي ، جعل عماهم وضلالهم في إثبات الآخرة كأنه ناشئ لهم من الآخرة إذ هي سبب عماهم ، أي إنكارها سبب ضلالهم . وفي الكلام مضاف محذوف تقديره : من إنكار وجودها عمون ، فالمجرور متعلق بـ " عمون " . وقدم على متعلقه للاهتمام بهذا المتعلق وللرعاية على الفاصلة . وصيغت الجملة الاسمية للدلالة على الثبات كما في قوله بل هم في شك منها .

وترتيب هذه الإضرابات الثلاثة ترتيب لتنزيل أحوالهم ; فوصفوا أولا بأنهم لا يشعرون بوقت البعث ، ثم بأنهم تلقفوا في شأن الآخرة التي البعث من شئونها علما مضطربا أو جهلا فخبطوا في شك ومرية ، فأعقبهم عمى وضلالة بحيث إن هذه الانتقالات مندرجة متصاعدة حتى لو قيل : بل ادارك علمهم في الآخرة فهم في شك منها فهم منها عمون لحصل المراد . ولكن جاءت طريقة التدرج بالإضراب الانتقالي أجزل وأبهج وأروع وأدل على أن كلا من هذه الأحوال المرتبة جدير بأن يعتبر فيه المعتبر باستقلاله لا بكونه متفرعا على ما قبله ، وهذا البيان هو ما أشرت إليه آنفا عند الكلام على قراءة الجمهور ادارك من خفاء توجيه الإضرابين اللذين بعد الإضراب الأول .

وضمائر جمع الغائبين في قوله يشعرون ، ويبعثون ، علمهم ، هم في شك ، هم منها عمون عائدة إلى من الموصولة في قوله تعالى قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ ص: 24 ] و " من " هذه وإن كانت من صيغ العموم فالضمائر المذكورة عائدة إليها بتخصيص عمومها ببعض من في الأرض وهم الذين يزعمون أنهم يعلمون الغيب من الكهان والعرافين وسدنة الأصنام الذين يستقسمون للناس بالأزلام ، وهو تخصيص لفظي من دلالة السياق وهو من قسم المخصص المنفصل اللفظي . والخلاف الواقع بين علماء الأصول في اعتبار عود الضمير إلى بعض أفراد العام مخصصا للعموم يقرب من أن يكون خلافا لفظيا . ومنه قوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن فإن ضمير بعولتهن عائد إلى المطلقات الرجعيات من قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن الذي هو عام للرجعيات وغيرهن .

وبهذا تعلم أن التعبير بـ " الذين كفروا " هنا ليس من الإظهار في مقام الإضمار ؛ لأن الذين كفروا أعم من ماصدق من في قوله لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية