الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى

لما استوفى غرض الاعتبار والإنذار حقه بذكر عواقب بعض الأمم التي كذبت الرسل وهي أشبه أحوالا بأحوال المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب الذي أنزل عليه ، وفي خلال ذلك وحفافيه تسلية النبيء صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من قومه أقبل الله بالخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يلقنه ماذا يقوله عقب القصص والمواعظ السالفة استخلاصا واستنتاجا منها ، وشكر الله على المقصود منها .

فالكلام استئناف والمناسبة ما علمت . أمر الرسول بالحمد على ما احتوت عليه القصص السابقة من نجاة الرسل من العذاب الحال بقومهم وعلى ما أعقبهم الله على صبرهم من النصر ورفعة الدرجات . وعلى أن أهلك الأعداء الظالمين كقوله فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ونظيره قوله في سورة العنكبوت قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون وقوله في آخر هذه السورة وقل الحمد لله سيريكم الآية . فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بحمد الله على ذلك باعتبار ما أفاده سوق تلك القصص من الإيماء إلى وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالنصر على أعدائه . فقوله قل الحمد لله أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بإنشاء حمد الله . وقد تقدمت صيغة الحمد في أول الفاتحة .

وعطف على المأمور بأن يقوله من الحمد أمر بأن يتبعه بالسلام على الرسل الذين سبقوه قدرا لقدر ما تجشموه في نشر الدين الحق .

وأصل " سلام " سلمت سلاما ، مقصود منه الإنشاء فحذف الفعل وأقيم [ ص: 7 ] مفعوله المطلق بدلا عنه . وعدل عن نصب المفعول المطلق إلى تصييره مبتدأ مرفوعا للدلالة على الثبات والدوام كما تقدم عند قوله الحمد لله في أول سورة الفاتحة .

والسلام في الأصل اسم يقوله القائل لمن يلاقيه بلفظ : سلام عليك ، أو السلام عليك . ومعناه سلامة وأمن ثابت لك لا نكول فيه ، لما تؤذن به ( على ) من الاستعلاء المجازي المراد به التمكن كما في أولئك على هدى من ربهم .

وأصل المقصود منه هو التأمين عند اللقاء إذ قد تكون بين المتلاقين إحن أو يكون من أحدهما إغراء بالآخر ، فكان لفظ " السلام عليك " كالعهد بالأمان . ثم لما كانت المفاتحة بذلك تدل على الابتداء بالإكرام والتلطف عند اللقاء ونية الإعانة والقرى ، شاع إطلاق كلمة : السلام عليك ، ونحوها عند قصد الإعراب عن التلطف والتكريم وتنوسي ما فيها من معنى بذل الأمن والسلامة ، فصار الناس يتقاولونها في غير مظان الريبة والمخافة فشاعت في العرب في أحيائهم وبيوتهم وصارت بمنزلة الدعاء الذي هو إعراب عن إضمار الخير للمدعو له بالسلامة في حياته . فلذلك قال تعالى فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كما تقدم في سورة النور . وصار قول : السلام ، بمنزلة قول : حياك الله ، ولكنهم خصوا كلمة ( حياك الله ) بملوكهم وعظمائهم فانتقلت كلمة ( السلام عليكم ) بهذا إلى طور آخر من أطوار استعمالها من عهد الجاهلية وقد قيل إنها كانت تحية للبشر من عهد آدم .

ثم ذكر القرآن السلام من عند الله تعالى على معنى كونه معاملة منه سبحانه بكرامة الثناء وحسن الذكر للذين رضي الله عنهم من عباده في الدنيا كقوله حكاية عن عيسى إذ أنطقه بقوله والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت . وكذلك في الآخرة وما في معناها من أحوال الأرواح بعد الموت كقوله عن عيسى ويوم أبعث حيا ، وقوله عن أهل الجنة لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام قولا من رب رحيم .

[ ص: 8 ] وجاء في القرآن السلام على خمسة من الأنبياء في سورة الصافات . وأيضا أمر الله الأمة بالسلام على رسولها فقال يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما أي قولوا : السلام عليك أيها النبيء ؛ لأن مادة التفعيل قد يؤتى بها للدلالة على قول منحوت في صيغة التفعيل فقوله سلموا تسليما معناه : قولوا كلمة السلام . مثل بسمل ، إذا قال : بسم الله ، وكبر ، إذا قال : الله أكبر . وفي الحديث تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين .

ومعنى وسلام على عباده الذين اصطفى إنشاء طلب من الله أن يسلم على أحد المصطفين ، أي أن يجعل لهم ذكرا حسنا في الملإ الأعلى .

فإذا قال القائل : السلام على فلان ، وفلان غائب أو في حكم الغائب كان ذلك قرينة على أن المقصود الدعاء له بسلام من الله عليه . فقد أزيل منه معنى التحية لا محالة وتعين للدعاء ، ولهذا نهى النبيء صلى الله عليه وسلم المسلمين على أن يقولوا في التشهد : السلام على الله السلام على النبيء السلام على فلان وفلان . قال لهم إن الله هو السلام أي لا معنى للسلام على الله في مقام الدعاء ؛ لأن الله هو المدعو بأن يسلم على من يطلب له ذلك .

فلما أمر تعالى في هذه السورة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول سلام على عباده الذين اصطفى فقد عين له هذه الجملة ليقولها يسأل من الله أن يكرم عباده الذين اصطفى بالثناء عليهم في الملأ الأعلى وحسن الذكر إذ قصارى ما يستطيعه الحاضر من جزاء الغائب على حسن صنيعه أن يبتهل إلى الله أن ينفحه بالكرامة .

والعباد الذين اصطفاهم الله في مقدمتهم الرسل والأنبياء ويشمل ذلك الصالحين من عباده كما في صيغة التشهد : ( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) . وسيأتي الكلام على التسليم على النبيء صلى الله عليه وسلم في سورة الأحزاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية