الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين .

رأى من قومه تمحضا للشغل بأمور دنياهم ، وإعراضا عن الفكرة في الآخرة والعمل لها والنظر في العاقبة ، وإشراكا مع الله في إلهيته ، وانصرافا عن عبادة الله وحده الذي خلقهم وأعمرهم في الأرض وزادهم قوة على الأمم ، فانصرفت هماتهم إلى التعاظم والتفاخر واللهو واللعب .

وكانت عاد قد بلغوا مبلغا عظيما من البأس وعظم السلطان والتغلب على البلاد مما أثار قولهم : من أشد منا قوة فقد كانت قبائل العرب تصف الشيء العظيم في نوعه بأنه ( عادي ) وكانوا أهل رأي سديد ورجاحة أحلام قال وداك بن ثميل المازني :


وأحلام عاد لا يخاف جليسهم ولو نطق العوار غرب لسان



وقال النابغة يمدح غسان :


أحلام عاد وأجساد مطهرة     من المعقة والآفات والأثم



فطال عليهم الأمد ، وتفننوا في إرضاء الهوى ، وأقبلوا على الملذات واشتد الغرور بأنفسهم فأضاعوا الجانب الأهم للإنسان وهو جانب الدين وزكاء النفس وأهملوا أن يقصدوا من أعمالهم المقاصد النافعة ونية إرضاء الله على أعمالهم لحب الرئاسة والسمعة ، فعبدوا الأصنام ، واستخفوا بجانب الله تعالى ، واستحمقوا الناصحين ، وأرسل الله إليهم هودا ففاتحهم بالتوبيخ على ما فتنوا بالإعجاب به وبذمه إذ ألهاهم التنافس فيه عن معرفة الله فنبذوا اتباع الشرائع وكذبوا الرسول . فمن سابق أعمال عاد أنهم كانوا بنوا في طرق أسفارهم أعلاما ومنارات تدل على الطريق كيلا يضل [ ص: 166 ] السائرون في تلك الرمال المتنقلة التي لا تبقى فيها آثار السائرين واحتفروا وشيدوا مصانع للمياه وهي الصهاريج تجمع ماء المطر في الشتاء ليشرب منها المسافرون وينتفع بها الحاضرون في زمن قلة الأمطار ، وبنوا حصونا وقصورا على أشراف من الأرض ، وهذا من الأعمال النافعة في ذاتها ; لأن فيها حفظ الناس من الهلاك في الفيافي بضلال الطرق ، ومن الهلكة عطشا إذا فقدوا الماء وقت الحاجة إليه ، فمتى أريد بها رضى الله تعالى بنفع عبيده كانت جديرة بالثناء عاجلا والثواب آجلا .

فأما إذا أهمل إرضاء الله تعالى بها واتخذت للرياء والغرور بالعظمة وكانوا معرضين عن التوحيد وعن عبادة الله انقلبت عظمة دنيوية محضة لا ينظر فيها إلى جانب النفع ولا تحث الناس على الاقتداء في تأسيس أمثالها وقصاراها التمدح بما وجدوه منها . فصار وجودها شبيها بالعبث ؛ لأنها خلت عن روح المقاصد الحسنة فلا عبرة عند الله بها ; لأن الله خلق هذا العالم ليكون مظهر عبادته وطاعته . وكانوا أيضا في الإعراض عن الآخرة والاقتصار على التزود للحياة الدنيا بمنزلة من يحسبون أنفسهم خالدين في الدنيا .

والأعمال إذا خلت عن مراعاة المقاصد التي ترضي الله تعالى اختلفت مشارب عامليها طرائق قددا على اختلاف الهمم واجتلاب المصالح الخاصة ؛ فلذلك أنكرها عليهم رسولهم بالاستفهام الإنكاري على سنة المواعظ فإنها تبنى على مراعاة ما في الأعمال من الضر الراجح على النفع فلا يلفت الواعظ إلى ما عسى أن يكون في الأعمال من مرجوح إذا كان ذلك النفع مرغوبا للناس ، فإن باعث الرغبة المنبث في الناس مغن عن ترغيبهم فيه ، وتصدي الواعظ لذلك فضول وخروج عن المقصد بتحذيرهم أو تحريضهم فيما عدا ذلك ، وإذا كان الباعث على الخير مفقودا أو ضئيلا . وقد كان هذا المقام مقام موعظة كما دل عليه قوله تعالى عنهم : قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين . ومقام الموعظة أوسع من مقام تغيير المنكر فموعظة هود عليه السلام متوجهة إلى ما في نفوسهم من الأدواء الروحية وليس في موعظته أمر بتغيير ما بنوه من العلامات ولا ما اتخذوه من المصانع .

ولما صار أثر البناء شاغلا عن المقصد النافع للحياة في الآخرة نزل فعلهم [ ص: 167 ] المفضي إلى العبث منزلة الفعل الذي أريد منه العبث عند الشروع فيه فأنكر عليهم البناء بإدخال همزة الإنكار على فعل ( تبنون ) ، وقيد بجملة ( تعبثون ) التي هي في موضع الحال من فاعل ( تبنون ) ، مع أنهم لما بنوا ذلك ما أرادوا بفعلهم عبثا ، فمناط الإنكار من الاستفهام الإنكاري هو البناء المقيد بالعبث ; لأن الحكم إذا دخل على مقيد بقيد انصرف إلى ذلك القيد .

وكذلك المعطوف على الفعل المستفهم عنه وهو جملة ( وتتخذون مصانع ) هو داخل في حيز الإنكار ومقيد بها المعطوف عليه بناء على أن الحال المتوسطة بين الجملتين ترجع إلى كلتيهما على رأي كثير من علماء أصول الفقه لا سيما إذا قامت القرينة على ذلك .

وقد اختلفت أقوال المفسرين في تعيين البناء والآيات والمصانع كما سيأتي . وفي بعض ما قالوه ما هو متحمض للهو والعبث والفساد ، وفي بعضه ما الأصل فيه الإباحة ، وفي بعضه ما هو صلاح ونفع كما سيأتي .

وموقع جملة ( أتبنون ) في موضع بدل الاشتمال لجملة ( ألا تتقون ) فإن مضمونها مما يشتمل عليه عدم التقوى الذي تسلط عليه الإنكار وهو في معنى النفي .

والريع بكسر الراء : الشرف ، أي : المكان المرتفع ، كذا عن ابن عباس ، والطريق والفج بين الجبلين ، كذا قال مجاهد وقتادة .

والآية : العلامة الدالة على الطريق ، وتطلق الآية على المصنوع المعجب ; لأنه يكون علامة على إتقان صانعه أو عظمة صاحبه .

و ( كل ) مستعمل في الكثرة ، أي : في الأرياع المشرفة على الطرق المسلوكة ، والعبث : العمل الذي لا فائدة نفع فيه .

والمصانع : جمع مصنع وأصله مفعل مشتق من صنع فهو مصدر ميمي وصف به للمبالغة ، فقيل : هو الجابية المحفورة في الأرض . وروي عن قتادة : مبنية بالجير يخزن بها الماء ويسمى صهريجا وماجلا ، وقيل : قصور وهو عن مجاهد .

وكانت بلاد عاد ما بين عمان وحضرموت شرقا وغربا ومتغلغلة في الشمال إلى الرمال وهي الأحقاق .

[ ص: 168 ] وجملة ( لعلكم تخلدون ) مستأنفة . و ( لعل ) للترجي ، وهو طلب المتكلم شيئا مستقرب الحصول ، والكلام تهكم بهم ، أي : أرجو لكم الخلود بسبب تلك المصانع . وقيل : جعلت عاد بنايات على المرتفعات على الطرق يعبثون فيها ويسخرون بالمارة . وقد يفسر هذا القول بأن الأمة في حال انحطاطها حولت ما كان موضوعا للمصالح إلى مفاسد فعمدوا إلى ما كان مبنيا لقصد تيسير السير والأمن على السابلة من الضلال في الفيافي المهلكة فجعلوه مكامن لهو وسخرية كما اتخذت بعض أديرة النصارى في بلاد العرب مجالس خمر ، وكما أدركنا الصهاريج التي في قرطاجنة كانت خزانا لمياه زغوان المنسابة إليها على الحنايا فرأيناها مكامن للصوص ومخازن للدواب إلى أول هذا القرن سنة 1303 هـ .

وقيل : إن المصانع قصور عظيمة اتخذوها فيكون الإنكار عليهم متوجها إلى الإسراف في الإنفاق على أبنية راسخة مكينة كأنها تمنعهم من الموت فيكون الكلام مسوقا مساق الموعظة من التوغل في الترف والتعاظم . هذا ما استخلصناه من كلمات انتثرت في أقوال عن المفسرين وهي تدل على حيرة من خلال كلامهم في توجيه إنكار هود على قومه عملين كانا معدودين في النافع من أعمال الأمم وأحسب أن قد أزلنا تلك الحيرة .

وقوله : وإذا بطشتم بطشتم جبارين أعقب به موعظتهم على اللهو واللعب والحرص على الدنيا بأن وعظهم على الشدة على الخلق في العقوبة وهذا من عدم التوازن في العقول فهم يبنون العلامات لإرشاد السابلة ويصطنعون المصانع لإغاثة العطاش ، فكيف يلاقي هذا التفكير تفكيرا بالإفراط في الشدة على الناس في البطش بهم ، أي : عقوبتهم .

والبطش : الضرب عند الغضب بسوط أو سيف ، وتقدم في قوله أم لهم أيد يبطشون بها في آخر الأعراف .

و ( جبارين ) حال من ضمير ( بطشتم ) وهو جمع جبار ، والجبار : الشديد في غير الحق . فالمعنى : إذا بطشتم كان بطشكم في حالة التجبر ، أي : الإفراط في الأذى وهو ظلم قال تعالى : إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين . وشأن العقاب أن يكون له حد مناسب للذنب [ ص: 169 ] المعاقب عليه بلا إفراط ولا تفريط في البطش فالإفراط استخفاف بحقوق الخلق .

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات . . الحديث . ووقع فعل ( بطشتم ) الثاني جوابا ل ( إذا ) وهو مرادف لفعل شرطها لحصول الاختلاف بين فعل الشرط وفعل الجواب بالعموم والخصوص كما تقدم في قوله تعالى : وإذا مروا باللغو مروا كراما في سورة الفرقان وإنما يقصد مثل هذا النظم لإفادة الاهتمام بالفعل ؛ إذ يحصل من تكريره تأكيد مدلوله .

التالي السابق


الخدمات العلمية