الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله - تعالى - : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 217 ] التحقيق - إن شاء الله - أن معنى الآية الكريمة : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في دار الدنيا ، فما أدري أأخرج من مسقط رأسي ، أو أقتل كما فعل ببعض الأنبياء .

                                                                                                                                                                                                                                      وما أدري ما ينالني من الحوادث والأمور في تحمل أعباء الرسالة .

                                                                                                                                                                                                                                      وما أدري ما يفعل بكم : أيخسف بكم ، أو تنزل عليكم حجارة من السماء ، ونحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا هو اختيار ابن جرير وغير واحد من المحققين .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا المعنى في هذه الآية دلت عليه آيات من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء الآية [ 7 \ 188 ] . وقوله - تعالى - آمرا له - صلى الله عليه وسلم - : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب الآية [ 6 \ 50 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذا تعلم أن ما يروى عن ابن عباس وأنس وغيرهما من أن المراد : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم أي في الآخرة - فهو خلاف التحقيق ، كما سترى إيضاحه - إن شاء الله - .

                                                                                                                                                                                                                                      فقد روي عن ابن عباس وأنس وقتادة والضحاك وعكرمة والحسن - في أحد قوليه - أنه لما نزل قوله - تعالى - : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم - فرح المشركون واليهود والمنافقون ، وقالوا : كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا ، وأنه لا فضل له علينا ، ولولا أنه ابتدع الذي يقوله من عند نفسه ، لأخبره الذي بعثه بما يفعل به .

                                                                                                                                                                                                                                      فنزلت ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ 48 \ 2 ] فنسخت هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقالت الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ، لقد بين لك الله ما يفعل بك ، فليت شعرنا ما هو ما فاعل بنا
                                                                                                                                                                                                                                      .

                                                                                                                                                                                                                                      فنزلت ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار الآية [ 48 \ 5 ] . ونزلت : وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا [ 33 \ 47 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فالظاهر أن هذا كله خلاف التحقيق ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجهل مصيره يوم القيامة لعصمته - صلوات الله وسلامه عليه - وقد قال له الله - تعالى - : وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 4 - 5 ] وأن قوله : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم [ ص: 218 ] في أمور الدنيا ، كما قدمنا . فإن قيل : قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أم العلاء الأنصارية ما يدل على أن قوله : ما يفعل بي أي في الآخرة ، فإن حديثها في قصة وفاة عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - عندهم ، ودخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ، أنها قالت : رحمة الله عليك أبا السائب ، شهادتي عليك ; لقد أكرمك الله - عز وجل - تعني عثمان بن مظعون ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وما يدريك أن الله أكرمه ؟ " فقلت : لا أدري ، بأبي أنت وأمي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي " الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب هو ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فقد قال في تفسير هذه الآية الكريمة ، بعد أن ساق حديث أم العلاء المذكور بالسند الذي رواه به أحمد - رحمه الله - انفرد به البخاري دون مسلم ، وفي لفظ له " ما أدري وأنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يفعل به " ، وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ ; بدليل قولها : فأحزنني ذلك . ا هـ محل الغرض منه . وهو الصواب - إن شاء الله - والعلم عند الله - تعالى - .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية