الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا .

انتصبت الأسماء الأربعة بفعل محذوف دل عليه ( تبرنا ) . وفي تقديمها تشويق إلى معرفة ما سيخبر به عنها . ويجوز أن تكون هذه الأسماء منصوبة بالعطف على ضمير النصب من قوله : ( فدمرناهم تدميرا ) .

وتنوين ( عادا وثمودا ) مع أن المراد الأمتان : فأما تنوين ( عادا ) فهو وجه وجيه ؛ لأنه اسم عري عن علامة التأنيث وغير زائد على ثلاثة أحرف فحقه الصرف . وأما صرف ( ثمودا ) في قراءة الجمهور فعلى اعتبار اسم الأب ، والأظهر عندي أن تنوينه للمزاوجة مع ( عادا ) كما قال تعالى : ( سلاسلا وأغلالا وسعيرا ) .

وقرأه حمزة وحفص ويعقوب بغير تنوين على ما يقتضيه ظاهر اسم الأمة من التأنيث المعنوي . وتقدم ذكر عاد في سورة الأعراف .

وأما أصحاب الرس فقد اختلف المفسرون في تعيينهم واتفقوا على أن الرس بئر عظيمة أو حفير كبير . ولما كان اسما لنوع من أماكن الأرض أطلقه العرب على أماكن كثيرة في بلاد العرب .

قال زهير :

[ ص: 28 ]

بكرن بكورا واستحرن بسحرة فهن ووادي الرس كاليد للفم

وسموا بالرس ما عرفوه من بلاد فارس ، وإضافة ( أصحاب ) إلى ( الرس ) إما لأنهم أصابهم الخسف في رس ، وإما لأنهم نازلون على رس ، وإما لأنهم احتفروا رسا ، كما سمي أصحاب الأخدود الذين خدوه وأضرموه . والأكثر على أنه من بلاد اليمامة ويسمى ( فلجا ) .

واختلف في المعني من ( أصحاب الرس ) في هذه الآية فقيل : هم قوم من بقايا ثمود . وقال السهيلي : هم قوم كانوا في عدن أرسل إليهم حنظلة بن صفوان رسولا . وكانت العنقاء وهي طائر أعظم ما يكون من الطير ( سميت العنقاء لطول عنقها ) وكانت تسكن في جبل يقال له ( فتح ) ، وكانت تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأهلكها الله بالصواعق . وقد عبدوا الأصنام وقتلوا نبيئهم فأهلكهم الله . قال وهب بن منبه : خسف بهم وبديارهم . وقيل : هم قوم شعيب . وقيل : قوم كانوا مع قوم شعيب ، وقال مقاتل والسدي : الرس بئر بأنطاكية ، وأصحاب الرس أهل أنطاكية بعث إليهم حبيب النجار فقتلوه ورسوه في بئر وهو المذكور في سورة يس ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين ) الآيات . وقيل : الرس واد في ( أذربيجان ) في ( أران ) يخرج من ( قاليقلا ) ويصب في بحيرة ( جرجان ) ولا أحسب أنه المراد في هذه الآية . ولعله من تشابه الأسماء ، يقال : كانت عليه ألف مدينة هلكت بالخسف وقيل غير ذلك مما هو أبعد .

والقرون : الأمم ؛ فإن القرن يطلق على الأمة ، وقد تقدم عند قوله تعالى : ( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن ) في أول الأنعام . وفي الحديث : خير القرون قرني ثم الذين يلونهم الحديث .

[ ص: 29 ] والإشارة في قوله : ( بين ذلك ) إلى المذكور من الأمم . ومعنى ( بين ذلك ) أن أمما تخللت تلك الأقوام ابتداء من قوم نوح .

وفي هذه الآية إيذان بطول مدد هذه القرون وكثرتها .

والتنوين في ( كلا ) تنوين عوض عن المضاف إليه . والتقدير : وكلهم ضربنا له الأمثال . وانتصب ( كلا ) الأول بإضمار فعل يدل عليه ( ضربنا له ) تقديره : خاطبنا أو حذرنا كلا وضربنا له الأمثال ، وانتصب ( كلا ) الثاني بإضمار فعل يدل عليه ( تبرنا ) وكلاهما من قبيل الاشتغال .

والتتبير : التفتيت للأجسام الصلبة كالزجاج والحديد . وأطلق التتبير على الإهلاك على طريقة الاستعارة تبعية في ( تبرنا ) وأصلية في ( تتبيرا ) ، وتقدم في قوله تعالى : ( إن هؤلاء متبر ما هم فيه ) في سورة الأعراف ، وقوله : ( وليتبروا ما علوا تتبيرا ) في سورة الإسراء . وانتصب ( تتبيرا ) على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله لإفادة شدة هذا الإهلاك .

ومعنى ضرب الأمثال : قولها وتبيينها . وتقدم عند قوله تعالى : ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما ) في سورة البقرة .

والمثل : النظير والمشابه ، أي بينا لهم الأشباه والنظائر في الخير والشر ليعرضوا حال أنفسهم عليها . قال تعالى : ( وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية