الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم

432

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة

ذكر ابتداء الدولة السلجوقية وسياقة أخبارهم متتابعة

في هذه السنة اشتد ملك السلطان طغرلبك محمد وأخيه جغري بك داود ابني ميكائيل بن سلجوق بن تقاق ، فنذكر أولا حال آبائه ، ثم نذكر حاله كيف تنقلت حتى صار سلطانا ، على أنني قد ذكرت أكثر أخبارهم متقدمة على السنين ، وإنما أوردناها هاهنا مجموعة لترد سياقا واحدا ، فهي أحسن ، فأقول ‏ : ‏فأما تقاق فمعناه القوس الجديد ، وكان شهما ذا رأي وتدبير ، وكان مقدم الأتراك الغز ، ومرجعهم إليه ، لا يخالفون له قولا ، ولا يتعدون أمرا ‏ .

فاتفق يوما من الأيام أن ملك الترك الذي يقال له بيغو جمع عساكره ، وأراد المسير إلى بلاد الإسلام ، فنهاه تقاق عن ذلك ، وطال الخطاب بينهما فيه ، فأغلظ له ملك الترك الكلام ، فلطمه تقاق فشج رأسه ، فأحاط به خدم ملك الترك ، وأرادوا أخذه ، فمانعهم وقاتلهم ، واجتمع معه من أصحابه من منعه ، فتفرقوا عنه ، ثم صلح الأمر بينهما ، وأقام تقاق عنده ، وولد له سلجوق ‏ .

وأما سلجوق فإنه لما كبر ظهرت عليه أمارات النجابة ومخايل التقدم ، فقربه [ ص: 6 ] ملك الترك وقدمه ، ولقبه سباشي ، ومعناه قائد الجيش ، وكانت امرأة الملك تخوفه من سلجوق لما ترى من تقدمه ، وطاعة الناس له ، والانقياد إليه ، وأغرته بقتله وبالغت في ذلك ‏ .

وسمع سلجوق الخبر ، فسار بجماعته كلهم ومن يطيعه من دار الحرب إلى ديار الإسلام ، وسعد بالإيمان ومجاورة المسلمين ، وازداد حاله علوا ، ( وإمرة ، وطاعة ) ، وأقام بنواحي جند ، وأدام غزو كفار الترك ، وكان ملكهم يأخذ الخراج من المسلمين في تلك الديار ، وطرد سلجوق عماله منها ، وصفت للمسلمين‏ .

ثم إن بعض ملوك السامانية كان هارون بن أيلك الخان قد استولى على بعض أطراف بلاده ، فأرسل إلى سلجوق يستمده ، فأمده بابنه أرسلان في جمع من أصحابه ، فقوي بهم الساماني على هارون ، واسترد ما أخذه منه ، وعاد أرسلان إلى أبيه‏ .

وكان لسلجوق من الأولاد : ‏ أرسلان ، وميكائيل ، وموسى ، وتوفي سلجوق بجند ، وكان عمره مائة سنة وسبع سنين ، ودفن هناك ، وبقي أولاده ، فغزا ميكائيل بعض بلاد الكفارالأتراك ، فقاتل وباشر القتال بنفسه ، فاستشهد في سبيل الله ، وخلف من الأولاد : ‏ بيغو ، وطغرلبك محمدا ، وجغري بك داود ، فأطاعهم عشائرهم ، ووقفوا عند أمرهم ونهيم ، ونزلوا بالقرب من بخارى على عشرين فرسخا منها ، فخافهم أمير بخارى فأساء جوارهم ، وأراد إهلاكهم والإيقاع بهم ، فالتجئوا إلى بغراخان ملك تركستان ، وأقاموا في بلاده ، واحتموا به وامتنعوا ، واستقر الأمر بين [ ص: 7 ] طغرلبك وأخيه داود أنهما لا يجتمعان عند بغراخان ، إنما يحضر عنده أحدهما ، ويقيم الآخر في أهله خوفا من مكر يمكره بهم ، فبقوا كذلك .

ثم إن بغراخان اجتهد في اجتماعهما عنده ، فلم يفعلا ، فقبض على طغرلبك وأسره ، فثار داود في عشائره ومن يتبعه ، وقصد بغراخان ليخلص أخاه ، فأنفذ إليه بغراخان عسكرا ، فاقتتلوا ، فانهزم عسكر بغراخان وكثر القتل فيهم ، وخلص أخاه من الأسر ، وانصرفوا إلى جند ، وهي قريب بخارى ، فأقاموا هناك .

فلما انقرضت دولة السامانية ، وملك أيلك الخان بخارى عظم محل أرسلان بن سلجوق عم داود وطغرلبك بما وراء النهر ، وكان علي تكين في حبس أرسلان خان ، فهرب ، ( وهو أخو أيلك الخان ) ولحق ببخارى واستولى عليها ، واتفق مع أرسلان بن سلجوق فامتنعا ، واستفحل أمرهما ، وقصدهما أيلك أخو أرسلان خان وقاتلهما ، فهزماه وبقيا ببخارى‏

وكان علي تكين يكثر معارضة يمين الدولة محمود بن سبكتكين فيما يجاوره في بلاده ، ويقطع الطريق على رسله المترددين إلى ملوك الترك ، فلما عبر محمود جيحون ، على ما ذكرناه ، هرب علي تكين من بخارى ، وأما أرسلان بن سلجوق وجماعته فإنهم دخلوا المفازة والرمل ، فاحتموا من محمود ، فرأى محمود قوة السلجوقية وما لهم من الشوكة وكثرة العدد ، فكاتب أرسلان بن سلجوق واستماله ورغبه ، فورد إليه ، فقبض يمين الدولة عليه في الحال ولم يمهله ، وسجنه في قلعة ونهب خركاهاته ، واستشار فيما يفعل بأهله وعشيرته ، فأشار أرسلان الجاذب ، وهو من أكبر خواص محمود ، بأن يقطع أباهمهم لئلا يرموا بالنشاب ، أو يغرقوا في جيحون ، فقال له‏ : ‏ ما أنت إلا قاسي القل ‏ ! ‏ ثم أمر بهم فعبروا نهر جيحون ، ففرقهم في نواحي خراسان ، ووضع عليهم الخراج ، فجار العمال عليهم ، وامتدت [ ص: 8 ] الأيدي إلى أموالهم وأولادهم ، انفصل منهم أكثر من ألفي رجل ، وساروا إلى كرمان ، ومنها إلى أصبهان ، وجرى بينهم وبين صاحبها علاء الدولة بن كاكويه حرب ، قد ذكرناها ، فساروا من أصبهان إلى أذربيجان ، وهؤلاء جماعة أرسلان . ‏ فأما أولاد إخوته فإن علي تكين صاحب بخارى أعمل الحيل في الظفر بهم ، فأرسل إلى يوسف بن موسى بن سلجوق ، وهو ابن عم طغرلبك محمد وجغري بك داود ، ووعده الإحسان ، وبالغ في استمالته ، وطلب منه الحضور عنده ، ففعل ، ففوض إليه علي تكين التقدم على جميع الأتراك الذين في ولايته ، وأقطعه أقطاعا كثيرة ، ولقب بالأمير إينانج بيغو‏ .

وكان الباعث له على ما فعله به أن يستعين به وبعشيرته وأصحابه على طغرلبك وداود ابني عمه ، ويفرق كلمتهم ، ويضرب بعضهم ببعض ، فعلموا مراده ، فلم يطعه يوسف إلى شيء مما أراده منه ، فلما رأى علي تكين أن مكره لم يعمل في يوسف ، ولم يبلغ به غرضا ، أمر بقتله ، فقتل يوسف ، تولى قتله أمير من أمراء علي تكين اسمه ألب قرا‏ .

فلما قتل عظم ذلك على طغرلبك وأخيه داود وجميع عشائرهما ، ولبسوا ثياب الحداد ، وجمعا من الأتراك من قدرا على جمعه للأخذ بثأره ، وجمع علي تكين أيضا جيوشه ، وسيرها إليهم ، فانهزم عسكر علي تكين ، وكان قد ولد السلطان ألب أرسلان بن داود أول محرم سنة عشرين وأربعمائة قبل الحرب ، فتبركوا به ، وتيمنوا بطلعته ، وقيل في مولده غير ذلك .

فلما كان سنة إحدى وعشرين [ وأربعمائة ] قصد طغرلبك وداود ألب قرا الذي قتل يوسف ابن عمهما ، فقتلاه وأوقعا بطائفة من عسكر علي تكين ، فقتلا منها نحو ألف رجل ، فجمع علي تكين عسكره وقصدهم هو وأولاده ومن حمل السلاح من أصحابه ، وتبعهم من أهل البلاد خلق كثير ، فقصدوهم من كل جانب ، وأوقعوا بهم وقعة عظيمة قتل [ فيها ] كثير من عساكر السلجوقية ، وأخذت أموالهم وأولادهم ، وسبوا كثيرا من نسائهم وذراريهم ، فألجأتهم الضرورة إلى العبور إلى خراسان .

[ ص: 9 ] فلما عبروا جيحون كتب إليهم خوارزمشاه هارون بن التونتاش يستدعيهم ليتفقوا معه ، وتكون أيديهم واحدة . ‏ فسار طغرلبك وأخواه داود وبيغو إليه ، وخيموا بظاهر خوارزم سنة ست وعشرين [ وأربعمائة ] ووثقوا به ، واطمأنوا إليه ، فغدر بهم ، فوضع عليهم الأمير شاهملك ، فكبسهم ومعه عسكر من هارون ، فأكثر القتل فيهم والنهب والسبي ، وارتكب من الغدر خطة شنيعة ، فساروا عن خوارزم بجموعهم إلى مفازة نسا ، وقصدوا مرو في هذه السنة أيضا ، ولم يتعرضوا لأحد بشر ، وبقي أولادهم وذراريهم في الأسر .

وكان الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين هذه السنة بطبرستان قد ملكها ، كما ذكرناه ، فراسلوه وطلبوا منه الأمان ، وضمنوا أنهم يقصدون الطائفة التي تفسد في بلاده ، ويدفعونهم عنها ويقاتلونهم ، ويكونون من أعظم أعوانه عليهم وعلى غيرهم . ‏ فقبض على الرسل ، وجهز عسكرا جرارا إليهم مع إيلتغدي حاجبه ، وغيرهم من الأمراء الأكبر ، فساروا إليهم ، والتقوا عند نسا في شعبان من السنة ، واقتتلوا وعظم الأمر ، وانهزم السلجوقية وغنمت أموالهم ، فجرى بين عسكر مسعود منازعة في الغنيمة أدت إلى القتال .

واتفق في تلك الحال أن السلجوقية لما انهزموا قال لهم داود‏ : ‏ إن العسكر الآن قد نزلوا واطمأنوا وأمنوا الطلب ، والرأي أن نقصدهم لعلنا نبلغ منهم غرضا‏ . ‏ فعادوا فوصلوا إليهم وهم على تلك الحال من الاختلاف وقتال بعضهم بعضا ، فأوقعوا بهم وقتلوا منهم وأسروا ، واستردوا ما أخذوا من أموالهم ورجالهم ، وعاد المنهزمون من العسكر إلى الملك مسعود وهو بنيسابور ، فندم على رده طاعتهم ، وعلم أن هيبتهم قد تمكنت من قلوب عساكره ، وأنهم قد طمعوا بهذه الهزيمة ، وتجرءوا على قتال العساكر السلطانية بعد الخوف الشديد ، وخاف من أخوات هذه الحادثة ، فأرسل إليهم يتهددهم ويتوعدهم ، فقال طغرلبك لإمام صلاته‏ : ‏ اكتب إلى السلطان ‏ ‏قل اللهم ما الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير‏ إنك على كل شيء قدير . ‏ ولا تزد على هذا .

[ ص: 10 ] فكتب ما قال ، فلما ورد الكتاب على مسعود أمر فكتب إليهم كتاب مملوء من المواعيد الجميلة ، وسير معه الخلع النفيسة ، وأمرهم بالرحيل إلى آمل الشط ، وهي مدينة على جيحون ، ونهاهم عن الشر والفساد ، وأقطع دهستان لداود ، ونسا لطغرلبك ، وفراوة لبيغو ، ولقب كل واحد منهم بالدهقان .

فاستخفوا بالرسول والخلع وقالوا للرسول : ‏ لو علمنا أن السلطان يبقي علينا إذا قدر ، لأطعناه ، ولكنا نعلم أنه متى ظفر بنا أهلكنا لما عملناه وأسلفناه ، فنحن ل نطيعه ، ولا نثق به .

وأفسدوا ، ثم كفوا وتركوا ذلك ، فقالوا‏ : ‏ إن كان لنا قدرة على الانتصاف من السلطان ، وإلا فلا حاجة بنا إلى إهلاك العالم ونهب أموالهم ، وأرسلوا إلى مسعود يخادعونه إظهار الطاعة له ، والكف عن الشر ، ويسألونه أن يطلق عمهم أرسلان بن سلجوق من الحبس ، فأجابهم إلى ذلك ، فأحضره عنده ببلخ ، وأمره بمراسلة بني أخيه بيغو وطغرلبك وداود يأمرهم بالاستقامة ، والكف عن الشر ، فأرسل إليهم رسولا يأمرهم بذلك ، وأرسل معه إشفى ، وأمره بتسليمه إليهم ، فلما وصل الرسول وأدى الرسالة وسلم إليهم الإشفى نفروا واستوحشوا ، وعادوا إلى أمرهم الأول في الغارة والشر ، فأعاده مسعود إلى محبسه ، وسار إلى غزنة ، فقصد السلجوقية بلخ ونيسابور وطوس وجوزجان ، ( على ما ذكرناه ) ‏ .

وأقام داود بمدينة مرو ، وانهزمت عساكر السلطان مسعود منهم مرة بعد مرة ، واستولى الرعب على أصحابه ، لاسيما مع بعده إلى غزنة ، فتوالت كتب نوابه وعماله إليه يستغيثون به ويشكون إليه ، ويذكرون ما يفعل السلجوقية في البلاد ، وهو لا يجيبهم ولا يتوجه إليهم ، وأعرض عن خراسان والسلجوقية ، واشتغل بأمور بلاد الهند . ‏ /0 فلما اشتد أمرهم بخراسان وعظمت حالهم اجتمع وزراء مسعود وأرباب الرأي في دولته ، وقالوا له‏ : ‏ إن قلة المبالاة بخراسان من أعظم سعادة السلجوقية ، وبها يملكو البلاد ، ويستقيم لهم الملك ، ونحن نعلم ، وكل عاقل ، أنهم إذا تركوا على هذه الحال استولوا على خراسان سريعا ، ثم ساروا منها إلى غزنة ، وحينئذ لا ينفعنا [ ص: 11 ] حركاتنا ولا نتمكن من البطالة والاشتغال باللعب واللهو والطرب .

فاستيقظ من رقدته ، وأبصر رشده بعد غفلته ، وجهز العساكر الكثيرة مع أكبر أمير عنده يعرف بسباشي ، وكان حاجبه ، وقد سيره قبل إلى الغز العراقية ، وقد تقدم ذكر ذلك ، وسير معه أميرا كبيرا اسمه مرداويج بن بشو‏ .

وكان سباشي جبانا ، فأقام بهراة ونيسابور ، ثم أغار بغتة على مرو وبها داود ، فسار مجدا ، فوصل إليها في ثلاثة أيام ، فأصاب جيوشه ودوابه التعب والكلال ، فانهزم داود بين يديه ولحقه العسكر ، فحمل عليه صاحب جوزجان ، فقاتله داود ، فقتل صاحب جوزجان وانهزمت عساكره ، فعظم قتله على سباشي وكل من معه ، ووقعت عليهم الذلة ، وقويت نفوس السلجوقية وزاد طمعهم .

وعاد داود إلى مرو ، فأحسن السيرة في أهلها ، وخطب له فيها أول جمعة في رجب سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ، ولقب في الخطبة بملك الملوك . وسباشي يمادي الأيام ، ويرحل من منزل إلى منزل ، والسلجوقية يراوغونه مراوغة الثعلب ، فقيل : إنه كان يفعل ذلك جبنا وخورا ، وقيل : بل راسله السلجوقية واستمالوه ورغبوه ، فنفس عنهم ، وتراخى في تتبعهم . والله أعلم .

ولما طال مقام سباشي وعساكره والسلجوقية بخراسان ، والبلاد منهوبة ، والدماء مسفوكة ، قلت الميرة والأقوات على العساكر خاصة‏ .

فأما السلجوقية فلا يبالون بذلك لأنهم يقنعون بالقليل ، فاضطر سباشي إلى مباشرة الحرب وترك المحاجزة ، فسار إلى داود ، وتقدم داود إليه ، فالتقوا في شعبان سنة ثمان وعشرين [ وأربعمائة ] على باب سرخس‏ . ‏ ولداود منجم يقال له الصومعي ، فأشار على داود بالقتال ، وضمن له الظفر ، وأشهد على نفسه أنه إن أخطأ فدمه مباح له فاقتتل العسكران ، فلم يثبت عسكر سباشي وانهزموا أقبح هزيمة ، وساروا أخزى مسير إلى هراة ، فتبعهم داود وعسكره إلى طوس يأخذونهم باليد ، وكفوا عن القتل ، وغنموا أموالهم ، فكانت هذه الوقعة هي التي ملك السلجوقية بعدها خراسان ، ودخلوا قصبات البلاد ، فدخل طغرلبك نيسابور ، [ ص: 12 ] وسكن الشاذياخ ، وخطب له فيها في شعبان بالسلطان المعظم ، وفرقوا النواب في النواحي‏ .

وسار داود إلى هراة ، ففارقها سباشي ومضى إلى غزنة ، فعاتبه مسعود وحجبه ، وقال له‏ : ‏ ضيعت العساكر ، وطاولت الأيام حتى قوي أمر العدو وصفا لهم مشربهم ، وتمكن من البلاد ما أرادوا . فاعتذر بأن القوم تفرقوا ثلاث فرق ، كلما تبعت فرقة سارت بين يدي ، وخلفي الفريقان في البلاد يفعلون ما أرادوا ، فاضطر مسعود إلى المسير إلى خراسان ، فجمع العساكر وفرق فيهم الأموال العظيمة ، وسار عن غزنة في جيوش يضيق بها الفضاء ومعه من الفيلة عدد كثير ، فوصل إلى بلخ ، وقصده داود إليها أيضا ، ونزل قريبا منها ، فدخلها يوما جريدة ( في طائفة يسيرة ) على حين غفلة من العساكر ، فأخذ الفيل الكبير الذي على باب دار الملك مسعود ، وأخذ معه عدة جنائب ، فعظم قدره في النفوس ، وازداد العسكر هيبة له .

ثم سار مسعود من بلخ أول شهر رمضان سنة تسع وعشرين وأربعمائة ومعه مائة ألف فارس سوى الأتباع ، وسار على جوزجان ، فأخذ واليها الذي كان بها للسلجوقية ، فصلبه ، وسار منها فوصل إلى مرو الشاهجان ، وسار داود إلى سرخس ، واجتمع هو وأخواه طغرلبك وبيغو ، فأرسل مسعود إليهم رسلا في الصلح ، فسار في الجواب بيغو ، فأكرمه مسعود وخلع عليه ، وكان مضمون رسالته : ‏ إنا لا نثق بمصالحتك بعد ما فعلنا هذه الأفعال التي سخطتها ، كل فعل منها موبق مهلك . وآيسوه من الصلح ، فسار مسعود من مرو إلى هراة ، وقصد داود مرو ، فامتنع أهلها عليه ، فحصرها سبعة أشهر ، وضيق عليهم وألح في قتالهم ، فملكها‏ .

فلما سمع مسعود هذا الخبر سقط في يده ، وسار من هراة إلى نيسابور ، ثم منها [ ص: 13 ] إلى سرخس ، وكلما تبع السلجوقية إلى مكان ساروا منه إلى غيره ، ولم يزل كذلك ، فأدركهم الشتاء ، فأقاموا بنيسابور ينتظرون الربيع ، فلما جاء الربيع كان الملك مسعود مشغولا بلهوه وشربه ، فتقضى الربيع والأمر كذلك ، فلما جاء الصيف عاتبه وزراؤه وخواصه على إهماله أمر عدوه ، فسار من نيسابور إلى مرو يطلب السلجوقية ، فدخلوا البرية ، فدخلها وراءهم مرحلتين والعسكر الذي له قد ضجروا من طول سفرهم وبيكارهم ، وسئموا الشد والترحل ، فإنهم كان لهم في السفر نحو ثلاث سنين ، بعضها مع سباشي ، وبعضها مع الملك مسعود ، فلما دخلوا البرية نزل منزلا قليل الماء ، والحر شديد ، فلم يكف الماء للسلطان وحواشيه .

وكان داود في معظم السلجوقية بإزائه ، وغيره من عشيرته مقابل ساقة عساكره ، يتخطفون من تخلف منهم . ‏ فاتفق لما يريده الله - تعالى - أن حواشي مسعود اختصموا هم جمع من العسكر على الماء وازدحموا ، وجرى بينهم فتنة ، حتى صار بعضهم يقاتل بعضا ، ( وبعضهم نهب بعضا ) فاستوحش لذلك أمر العسكر ، ومشى بعضهم إلى بعض في التخلي عن مسعود ، فعلم داود ما هم فيه من الاختلاف ، فتقدم إليهم وحمل عليهم وهم في ذلك التنازع والقتال والنهب ، فولوا منهزمين لا يلوي أول على آخر ، وكثر القتل فيهم ، والسلطان مسعود ووزيره يناديانهم ، ويأمرانهم بالعود فلا يرجعون ، وتمت الهزيمة على العسكر ، وثبت مسعود فقيل له : ‏ ما تنتظر ؟ قد فارقك أصحابك ، وأنت في بريةمهلكة ، وبين يديك عدو ، وخلفك عدو ، ولا وجه للمقام . ‏ فمضى منهزما ومعه نحو مائة فارس ، فتبعه فارس من السلجوقية فعطف عليه مسعود فقتله ، وصار لا يقف على شيء حتى أتى غرشستان‏ .

وأما السلجوقية فإنهم غنموا من العسكر المسعودي ما لا يدخل تحت الإحصاء ، وقسمه داود على أصحابه ، وآثرهم على نفسه ، ونزل في سرادق مسعود وقعد على كرسيه ، ولم ينزل عسكره ثلاثة أيام عن ظهور دوابهم ، لا يفارقونها إلا لما لا بد لهم [ ص: 14 ] منه ، من مأكول ومشروب وغير ذلك ، خوفا من عود العسكر ، وأطلق الأسرى ، وأطلق خراج سنة كاملة .

وسار طغرلبك إلى نيسابور فملكها ، ودخل إليها آخر سنة إحدى وثلاثين [ وأربعمائة ] ( وأول سنة اثنتين وثلاثين ) ونهب أصحابه الناس ، فقيل عنه : إنه رأى لوزينجا فأكله وقال : ‏ هذا قطماج طيب إلا أنه لا ثوم فيه . ورأى الغز الكافور ( فظنوه ملحا ) وقالوا‏ : ‏ هذا ملح مر ، ونقل عنهم أشياء من هذا كثير‏ . ‏وكان العيارون قد عظم ضررهم ، واشتد أمرهم ، وزادت البلية بهم على أهل نيسابور ، فهم ينهبون الأموال ، ويقتلون النفوس ، ويرتكبون الفروج الحرام ، ويفعلون كل مايريدونه ، لا يردعهم عن ذلك رادع ، ولا يزجرهم زاجر ، فلما دخل طغرلبك البلد خافه العيارون ، وكفوا عما كانوا يفعلون ، وسكن الناس واطمأنوا .

واستولى السلجوقية حينئذ على جميع البلاد ، فسار بيغو إلى هراة فدخلها ، وسار داود إلى بلخ وبها ألتونتاق الحاجب واليا عليها لمسعود ، فأرسل إليه داود يطلب منه تسليم البلد إليه ، ويعرفه عجز صاحبه عن نصرته ، فسجن ألتونتاق الرسل ، فنازله داود وحصر المدينة ، فأرسل ألتونتاق إلى مسعود وهو بغزنة يعرفه الحال وما هو فيه من ضيق الحصار ، فجهز مسعود العساكر الكثيرة وسيرها ، فجاءت طائفة منهم إلى الرخج وبها جمع من السلجوقية ، فقاتلوهم ، فانهزم السلجوقية وقتل منهم ثمانمائة رجل ، وأسر كثير ، وخلا ذلك الصقع منهم .

وسار طائفة منهم إلى هراة وبها بيغو ، فقاتلوه ودفعوه عنها ، ثم إن مسعودا سير ولده مودودا في عسكر كثير مددا لهذه العساكر ، فقتل مسعود وهو بخراسان [ ص: 15 ] على ما نذكره إن شاء الله - تعالى - فساروا عن غزنة سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة ، فلما قاربوا بلخ سير داود طائفة من عسكره ، فأوقعوا بطلائع مودود ، وانهزمت الطلائع وتبعهم عسكر داود ، فلما أحس به عسكر مودود رجعوا إلى ورائهم وأقاموا ، فلما سمع ألتونتاق صاحب بلخ الخبر أطاع داود ، وسلم إليه البلد ، ووطئ بساطه .

التالي السابق


الخدمات العلمية