الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه

                                                                                                                51 حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة ح وحدثنا ابن نمير حدثنا أبي ح وحدثنا أبو كريب حدثنا ابن إدريس كلهم عن إسمعيل بن أبي خالد ح وحدثنا يحيى بن حبيب الحارثي واللفظ له حدثنا معتمر عن إسمعيل قال سمعت قيسا يروي عن أبي مسعود قال أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمن فقال ألا إن الإيمان ههنا وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه

                                                                                                                في هذا الباب ( أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده نحو اليمن فقال : ألا إن الإيمان ههنا ، وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر ) وفي رواية جاء أهل اليمن هم أرق أفئدة الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية وفي رواية أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبا وأرق أفئدة الفقه يمان ، والحكمة يمانية وفي رواية رأس الكفر نحو المشرق ، والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل الفدادين أهل الوبر ، والسكينة في أهل الغنم وفي رواية الإيمان يمان ، والكفر قبل المشرق والسكينة في أهل الغنم ، والفخر والرياء في الفدادين أهل الخيل والوبر وفي رواية أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوبا وأرق أفئدة الإيمان يمان ، والحكمة يمانية ، ورأس الكفر قبل المشرق وفي رواية غلظ القلوب والجفاء في المشرق ، والإيمان في أهل الحجاز .

                                                                                                                قد اختلف في مواضع هذا الحديث ، وقد جمعها القاضي عياض - رحمه الله - ، ونقحها مختصرة بعده [ ص: 224 ] الشيخ أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله - ، وأنا أحكي ما ذكره . قال : أما ما ذكر من نسبة الإيمان إلى أهل اليمن فقد صرفوه عن ظاهره من حيث إن مبدأ الإيمان من مكة ثم من المدينة حرسهما الله تعالى فحكى أبو عبيد إمام الغرب ثم من بعده في ذلك أقوالا

                                                                                                                أحدها : أنه أراد بذلك مكة فإنه يقال : إن مكة من تهامة ، وتهامة من أرض اليمن .

                                                                                                                والثاني : أن المراد مكة والمدينة ، فإنه يروى في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا الكلام وهو بتبوك ، ومكة والمدينة حينئذ بينه وبين اليمن ، فأشار إلى ناحية اليمن ، وهو يريد مكة والمدينة ، فقال : الإيمان يمان ونسبهما إلى اليمن لكونهما حينئذ من ناحية اليمن ، كما قالوا الركن اليماني وهو بمكة لكونه إلى ناحية اليمن .

                                                                                                                والثالث : ما ذهب إليه كثير من الناس وهو أحسنها عند أبي عبيد أن المراد بذلك الأنصار لأنهم يمانون في الأصل فنسب الإيمان إليهم لكونهم أنصاره .

                                                                                                                قال الشيخ أبو عمرو - رحمه الله - : ولو جمع أبو عبيد ومن سلك سبيله طرق الحديث بألفاظه كما جمعها مسلم وغيره ، وتأملوها لصاروا إلى غير ما ذكروه ، ولما تركوا الظاهر ، ولقضوا بأن المراد [ ص: 225 ] اليمن ، وأهل اليمن على ما هو المفهوم من إطلاق ذلك ; إذ من ألفاظه أتاكم أهل اليمن والأنصار من جملة المخاطبين بذلك فهم إذن غيرهم . وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : جاء أهل اليمن وإنما جاء حينئذ غير الأنصار ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - وصفهم بما يقضي بكمال إيمانهم ورتب عليه ( الإيمان يمان ) فكان ذلك إشارة للإيمان إلى من أتاه من أهل اليمن لا إلى مكة والمدينة . ولا مانع من إجراء الكلام على ظاهره ، وحمله على أهل اليمن حقيقة ; لأن من اتصف بشيء وقوي قيامه به ، وتأكد اطلاعه منه ، ينسب ذلك الشيء إليه إشعارا بتميزه به ، وكمال حاله فيه ، وهكذا كان حال أهل اليمن حينئذ في الإيمان ، وحال الوافدين منه في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفي أعقاب موته كأويس القرني ، وأبي مسلم الخولاني ، - رضي الله عنهما ، وشبههما ممن سلم قلبه ، وقوي إيمانه فكانت نسبة الإيمان إليهم لذلك إشعارا بكمال إيمانهم من غير أن يكون في ذلك نفي له عن غيرهم ، فلا منافاة بينه وبين قوله - صلى الله عليه وسلم - : الإيمان في أهل الحجاز ثم المراد بذلك الموجودون منهم حينئذ لا كل أهل اليمن في كل زمان فإن اللفظ لا يقتضيه . هذا هو الحق في ذلك ونشكر الله تعالى على هدايتنا له . والله أعلم .

                                                                                                                قال : وأما ما ذكر من الفقه والحكمة فالفقه هنا عبارة عن الفهم في الدين ، واصطلح بعد ذلك الفقهاء وأصحاب الأصول على تخصيص الفقه بإدراك الأحكام الشرعية العملية بالاستدلال على أعيانها .

                                                                                                                وأما الحكمة ففيها أقوال كثيرة مضطربة قد اقتصر كل من قائليها على بعض صفات الحكمة . وقد صفا لنا منها أن الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالأحكام ، المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى ، المصحوب بنفاذ البصيرة وتهذيب النفس ، وتحقيق الحق ، والعمل به ، والصد عن اتباع الهوى والباطل . والحكيم من له ذلك .

                                                                                                                وقال أبو بكر بن دريد : كل كلمة وعظتك ، وزجرتك ، أو دعتك إلى مكرمة ، أو نهتك عن قبيح ، فهي حكمة وحكم . منه قول - صلى الله عليه وسلم - : إن من الشعر حكمة وفي بعض الروايات حكما . والله أعلم .

                                                                                                                قال الشيخ وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يمان ويمانية ) هو بتخفيف الياء عند جماهير أهل العربية لأن الألف المزيدة فيه عوض من ياء النسب المشددة فلا يجمع بينهما . وقال ابن السيد في كتابه ( الاقتضاب ) : حكى المبرد وغيره أن التشديد لغة . قال الشيخ : وهذا غريب . قلت : وقد حكى الجوهري وصاحب المطالع وغيرهما من العلماء عن سيبويه : أنه حكى عن بعض العرب أنهم يقولون اليماني بالياء [ ص: 226 ] المشددة وأنشد لأمية بن خلف :


                                                                                                                يمانيا يظل يشب كيرا وينفخ دائما لهب الشواظ



                                                                                                                والله أعلم .

                                                                                                                قال الشيخ وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ألين قلوبا وأرق أفئدة ) المشهور أن الفؤاد هو القلب . فعلى هذا يكون كرر لفظ القلب بلفظين ، وهو أولى من تكريره بلفظ واحد . وقيل : الفؤاد غير القلب ، وهو عين القلب ، وقيل : باطن القلب ، وقيل : غشاء القلب . وأما وصفها باللين والرقة والضعف فمعناه أنها ذات خشية واستكانة سريعة الاستجابة والتأثير بقوارع التذكير سالمة من الغلظ والشدة والقسوة التي وصف بها قلوب الآخرين .

                                                                                                                قال : وقوله - صلى الله عليه وسلم - ( في الفدادين ) فزعم أبو عمرو الشيباني أنه بتخفيف الدال وهو جمع ( فدان ) بتشديد الدال وهو عبارة عن البقر التي يحرث عليها . حكاه عنه أبو عبيد ، وأنكره عليه . وعلى هذا المراد بذلك أصحابها فحذف المضاف . والصواب في ( الفدادين ) بتشديد الدال جمع ( فداد ) بدالين أولاهما مشددة . وهذا قول أهل الحديث ، والأصمعي ، وجمهور أهل اللغة . وهو من ( الفديد ) وهو الصوت الشديد . فهم الذين تعلو أصواتهم في إبلهم ، وخيلهم وحروثهم ، ونحو ذلك . وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى : هم المكثرون من الإبل الذين يملك أحدهم المائتين منها إلى الألف .

                                                                                                                وقوله ( إن القسوة في الفدادين عند أصول أذناب الإبل ) معناه الذين لهم جلبة وصياح عند سوقهم لها .

                                                                                                                وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر ) . قوله ( ربيعة ومضر ) بدل من الفدادين ، وأما قرنا الشيطان فجانبا رأسه ، وقيل : هما جمعاه اللذان يغريهما بإضلال الناس ، وقيل : شيعتاه من الكفار . والمراد بذلك اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان ومن الكفر كما قال في الحديث الآخر : رأس الكفر نحو المشرق وكان ذلك في عهده - صلى الله عليه وسلم - حين قال ذلك ، ويكون حين يخرج الدجال من المشرق . وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن العظيمة ، ومثار الكفرة الترك الغاشمة العاتية الشديدة البأس .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الفخر والخيلاء ) فالفخر هو الافتخار ، وعد المآثر القديمة تعظيما والخيلاء الكبر واحتقار الناس .

                                                                                                                وأما قوله : ( في أهل الخيل والإبل الفدادين أهل الوبر ) فالوبر وإن كان من الإبل دون الخيل فلا يمتنع أن يكون قد وصفهم بكونهم جامعين بين الطمأنينة والسكون . على خلاف ما ذكره من صفة الفدادين . هذا آخر ما ذكره الشيخ أبو عمرو - رحمه الله - وفيه كفاية فلا نطول بزيادة عليه . والله أعلم .

                                                                                                                وأما أسانيد الباب فقال مسلم - رحمه الله - : ( حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة قال : وحدثنا [ ص: 227 ] ابن نمير حدثنا أبي قال : وحدثنا أبو كريب حدثنا ابن إدريس كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد قال : وحدثنا يحيى بن حبيب حدثنا معتمر عن إسماعيل قال : سمعت قيسا يروي عن أبي مسعود ) ، هؤلاء كلهم كوفيون إلا يحيى بن حبيب ومعتمرا فإنهما بصريان . وقد تقدم أن اسم ابن أبي شيبة : عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن أبي شيبة ، وأن أبا أسامة : حماد بن أسامة ، وابن نمير محمد بن عبد الله بن نمير ، وأبو كريب محمد بن العلاء ، وابن إدريس عبد الله ، وأبو خالد هرمز ، وقيل : سعد ، وقيل : كثير . وأبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري - رضي الله عنهم - . وفي الإسناد الآخر الدارمي وقد تقدم في مقدمة الكتاب أنه منسوب إلى جد للقبيلة اسمه دارم ، وفيه أبو اليمان واسمه الحكم بن نافع ، وبعده أبو معاوية محمد بن خازم بالخاء المعجمة ، والأعمش سليمان بن مهران ، وأبو صالح ذكوان ، وابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس . وكل هذا وإن كان ظاهرا وقد تقدم فإنما أقصد بتكريره وذكره الإيضاح لمن لا يكون من أهل هذا الشأن فربما وقف على هذا الباب ، وأراد معرفة اسم بعض هؤلاء ليتوصل به إلى مطالعة ترجمته ، ومعرفة حاله ، أو غير ذلك من الأغراض ، فسهلت عليه الطريق بعبارة مختصرة . والله أعلم بالصواب .




                                                                                                                الخدمات العلمية