الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل : شرط ) بالبناء للمفعول عند الإمام أحمد رضي الله عنه والأكثر من الشافعية وغيرهم ( ذكر سبب جرح ) لاختلاف الناس في سببه واعتقاد بعضهم ما لا يصلح أن يكون سببا للجرح جارحا ، كشرب النبيذ متأولا . فإنه يقدح في العدالة عند مالك دون غيره . وكمن رأى إنسانا يبول قائما فيبادر بجرحه لذلك ، ولم ينظر في أنه متأول مخطئ أو معذور . كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه بال قائما } لعذر كان به . فلهذا وشبهه ينبغي بيان سبب الجرح ليكون على ثقة واحتراز من الخطإ والغلو فيه ( و ) شرط أيضا ذكر سبب ( تضعيف ) كما يشترط ذكر سبب جرح . فلا يمنع قبول الخبر قول محدث " هذا الحديث ضعيف " من غير أن يعزوه إلى مستند يرجع إليه فيه ; لأنه قد يضعفه بشيء لو ذكره لم يكن قادحا . هذا عندنا وعند الشافعية . ويؤثر ذلك عند الحنفية ، ويكون الخبر ضعيفا عندهم بذلك قالوا : لأن المحدث ثقة وقد ضعفه ( و ) إذا لم يقبل الجرح المطلق ، ولا التضعيف المطلق ووجد ( لا يلزم توقف ) عن العمل بذلك الخبر ( إلى ) حين ( تبيين ) الجرح ، أو التضعيف ، بخلاف الشهادة ; لأن الخبر يلزم العمل به ما لم يثبت القدح ، والشهادة آكد . ذكره القاضي وأبو الخطاب في مسألة ما ليس له نفس سائلة . وقيل : بلى فيتوقف حتى يتبين السبب الذي أطلقه ; لأنه أوجب رتبة ، وإلا لانسد باب الجرح غالبا . وإلى هذا القول ميل ابن مفلح ، وهو الأحوط ( لا تعديل ) أي أنه لا يشترط ذكر سبب التعديل ، استصحابا لحال العدالة . وقيل : بلى ، لالتباس العدالة لكثرة التصنع . قال في شرح التحرير : وهو قوي ، واشترطه ابن حمدان [ ص: 282 ] من أصحابنا وغيره ، كاشتراط ذكر سبب الجرح للمسارعة إلى التعديل ، بناء على الظاهر . وعند الإمام أحمد رضي الله عنه : أنه لا يشترط ذكر سبب واحد منهما . اختاره جمع من العلماء . منهم ابن الباقلاني . وحكي عن الحنفية . فيكفي مجرد قوله " هو فاسق أو عدل " اعتمادا على الجارح والمعدل ( و ) لا يشترط أيضا ذكر سبب ( تصحيح ) للخبر . فيكفي قول من يعتد بقوله " هذا الخبر صحيح " فإن إطلاق تصحيحه يستلزم تعديل رواته . وقد علمت أنه لا يشترط ذكر سبب التعديل ( ويكفي فيهن ) في مسائل الجرح والتضعيف والتعديل والتصحيح إذا وجدت بشروطها ( و ) في ( تعريف ) عدل ( واحد ليس من عادته ) أي : ليس من عادة ذلك الواحد ( تساهل ) في التعديل ( أو مبالغة ) في الجرح عند الأئمة الأربعة وأكثر العلماء . قال ابن مفلح وغيره والجمهور : يكفي جرح واحد وتعديله ; لأن الشرط لا يزيد على مشروطه . ويكفي في الرواية واحد لا الشهادة . فتعديل الراوي تبع للرواية وفرع لها ; لأنه إنما يراد لأجلها ، والرواية لا يعتبر فيها العدد ، بل يكفي فيها راو واحد . فكذا ما هو تبع وفرع لها . فلو قلنا : تقبل رواية الواحد ، ولا يكفي في تعديله إلا اثنان ، لزاد الفرع على أصله . وزيادة الفروع على أصولها غير معهودة عقلا ولا شرعا . انتهى . وكما أن الجرح والتعديل من فروع الرواية : كذلك التعريف . واعتبر قوم العدد في الجرح والتعديل . منهم ابن حمدان في مقنعه .

كالشهادة عندنا وعند الشافعية والمالكية ; لأنها شهادة ، فاعتبر لها العدد . رد بأنه خبر لا شهادة . واعتبر قوم العدد في الجرح فقط في الرواية والشهادة ( ومن اشتبه اسمه ) من العدول ( بمجروح وقف خبره ) أي الخبر الذي وقع فيه الاشتباه ، حتى يتحقق أمره . وذلك لاحتمال أن يكون الراوي ذلك المجروح . فلا تقبل روايته ، بل يتوقف حتى يعلم هل هو المجروح أو غيره ؟ وكثيرا ما يفعل المدلسون مثل هذا يذكرون الراوي الضعيف باسم يشاركه فيه راو ثقة ، ليظن أنه ذلك الثقة ترويجا لروايتهم ( ولا شيء لجرح باستقراء ) يعني أنه لا يلتفت إلى ذكر الجرح بطريق [ ص: 283 ] الاستقراء . ومعنى الاستقراء : التتبع ، بأن يقال : تتبعنا كذا فوجدناه كذا مرارا كثيرة لم ينخرم في مرة منها ، فلو قيل : من وجدناه يعمل كذا فهو مجروح .

واستقرينا ذلك في أشخاص كثيرة فوجدناه كذلك . فهذا ليس بجرح ، وليس من طرق الجرح حتى يحكم به . قال في شرح التحرير : وهذه المسألة أخذتها من كلام ابن مفلح في أصوله ( وله جرح ) أي وللجارح الجرح في الراوي ( ب ) سبب ( استفاضة ) أي إشاعة عن محدث أن فيه صفة توجب رد الحديث . فيجوز الجرح بذلك . كما تجوز الشهادة بالاستفاضة في مسائل مخصوصة ذكرها الفقهاء في كتبهم ، ومنع الجرح بذلك بعض أصحابنا . فقال : ليس له الجرح بالاستفاضة ولا تقبل ، كما أنه لا يجوز له أن يزكيه بالاستفاضة ( لا تزكية ) يعني أنه لا يجوز له أن يزكي بالاستفاضة من شاعت عدالته عند الأكثر ( وقيل : بلى إذا شاعت عدالته . كأحد الأئمة . وجعله ) أي : وجعل صاحب التحرير الذي هو أصل كتابنا ( المذهب في أصله ) أي أصل كتابنا ، وهو التحرير . واحتج لذلك كثير من العلماء بمن شاعت إمامته وعدالته من الأئمة . فإنه يزكى بالاستفاضة . قال صاحب الأصل ، قلت : وهذا المذهب ، وهو معنى قول الإمام أحمد رضي الله عنه وجماعة من العلماء . فإنه كان يسأله الواحد منهم عن مثله . فيقول : ثقة : لا يسأل عن مثله . كما لا يسأل مثلا عن الإمام مالك والأوزاعي والثوري ونحوهم . قال ابن الصلاح : هذا صحيح مذهب الشافعي .

وعليه الاعتماد في أصول الفقه . وممن ذكره من أهل الحديث الخطيب ، ومثل ذلك بمالك وشعبة والسفيانين والأوزاعي والليث وابن المبارك ووكيع وأحمد وابن معين وابن المديني ، ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر فلا يسأل عن عدالة هؤلاء وأمثالهم ، وإنما يسأل عمن خفي أمره عن الطالبين ( ويقدم جرح ) يعني : إذا جرح راويا واحد فأكثر ، وعدله واحد فأكثر ، قدم العمل بجرحه على العمل بتعديله ; لأن الجارح معه زيادة علم لم يطلع عليها المعدل . وهذا الصحيح مطلقا .

وعليه الأكثر . وقال ابن حمدان من أصحابنا : إن كثر عدد المجرحين على عدد المعدلين قدم الجرح [ ص: 284 ] وإلا فلا ، وللتعديل مراتب أشير إليها بقوله ( وأقوى تعديل ) أي أعلى مراتبه ( حكم مشترط العدالة بها ) أي بالعدالة . وهذا بلا خلاف . قال ابن مفلح وغيره : وحكم الحاكم تعديل اتفاقا . أطلقه في الروضة . ومراده : ما صرح به غيره حاكم يشترط العدالة ، وهو تعديل متفق عليه ، وإلا كان الحاكم فاسقا لقبول شهادة من ليس عدلا عنده ( فقول ) أي : فيلي هذه المرتبة التعديل بالقول ( وأعلاه ) أي من أعلى التعديل بالقول قول المعدل هو ( عدل رضي ، مع ذكر سببه ) أي سبب التعديل بأن يثني عليه بذكر محاسن عمله مما يعلم منه مما ينبغي شرعا من أداء الواجبات واجتناب المحرمات واستعمال وظائف المروءة ( فبدونه ) أي فيلي هذه المرتبة قوله : هو عدل رضي بدون ذكر سبب التعديل ، ويتفاوت هذا أيضا . فأعلاه تكرير اللفظ ، بأن يقول : ثقة ثقة ، أو عدل عدل ، أو ثقة عدل ، أو ثقة متقن ، أو ثقة ثبت ، أو ثقة حجة أو ثقة حافظ ، أو ثقة ضابط . ويليه : ذكر ذلك من غير تكرار ، وهو أن يأتي بواحدة من هذه الكلمات . ويليه قول المعدل : هو صدوق ، أو مأمون ، أو خيار ، أو لا بأس ونحوه . ويليه قول المعدل : محله الصدق ، أو رووا عنه ، أو صالح الحديث أو مقارب الحديث ، أو حسن الحديث ، أو صويلح ، أو صدوق إن شاء الله ، أو أرجو أن ليس به بأس ، ونحوه ( فعمل بروايته إن علم أنه لا مستند له غيرها ) أي فيلي هذه المرتبة - وهي التعديل بالقول - عمل من يعتد بتعديله برواية المعدل ، بشرط أن يعلم أن العامل بروايته لا مستند له في عمله غير هذه الرواية ، وإن لم يعلم ذلك منه لم يكن تعديلا ، لاحتمال أن يكون عمل بدليل آخر وافق روايته .

وقال الموفق وأبو المعالي . إلا فيما العمل به احتياطا . قاله المجد في المسودة قال الجويني والمقدسي : يكون تعديلا إلا فيما العمل به من مسالك الاحتياط . قال : وعندي أنه يفصل بين أن يكون الراوي ممن يرى قبول مستور الحال ، أو يجهل مذهبه فيه ( وليس ترك عمل بها ) أي برواية أحد ( و ) لا ترك عمل ( بشهادة ) أحد ( جرحا ) له ، لاحتمال سبب لترك العمل غير الفسق . كعداوة أو تهمة قرابة ، [ ص: 285 ] أو غير ذلك . ولأن عمله قد يكون متوقفا على أمر آخر زائد عن العدالة . فيكون الترك لعدم ذلك ، لا لانتفاء العدالة ، فلا يحكم عليه بالجرح بذلك مع الاحتمال ( ثم ) يلي ما تقدم في الرتبة ( رواية عدل عادته أن لا يروي إلا عن عدل ) هذا آخر مراتب التعديل . وصورة ذلك : أنه متى روى الثقة عن شخص مجهول الحال ، وكانت عادة الثقة أنه لا يروي إلا عن عدل ، فتكون روايته عن ذلك الشخص تعديلا لذلك الشخص ، وإن لم يعرف ذلك من عادته . فليس بتعديل . قال ابن رجب في آخر شرح الترمذي : اختلف الفقهاء وأهل الحديث في رواية الثقة عن رجل غير معروف : هل هو تعديل أم لا ؟ حكى أصحابنا عن أحمد في ذلك روايتين وحكوا عن الحنفية أنه تعديل ، وعن الشافعية خلاف ذلك . قال : والمنصوص عن أحمد : أنه إن عرف أنه لا يروي إلا عن ثقة ، فروايته عن إنسان تعديل له .

ومن لم يعرف منه ذلك فليس بتعديل . وصرح به طائفة من محققي أصحابنا ، وأصحاب الشافعي . قال أحمد في رواية الأثرم : إذا روى الحديث عبد الرحمن بن مهدي عن رجل : فهو حجة ، قال وقال أحمد في رواية أبي زرعة : مالك بن أنس إذا روى عن رجل لا يعرف . فهو حجة . وقال في رواية ابن هانئ : ما روى مالك عن أحد إلا وهو ثقة . وذكر نصوصا أخر في ذلك عنه . وعن ابن معين : إذا علم ذلك فيعرف كونه لا يروي إلا عن عدل ، إما بتصريحه وهو الغاية ، أو باعتبارنا لحاله ، أو استقرائنا لمن يروي عنه وهو دون الأول . قاله ابن دقيق العيد وغيره . والرواية الثانية : أن رواية الثقة عن شخص لا تكون تعديلا له مطلقا . قال ابن مفلح في أصوله : ورواية العدل ليست تعديلا عند أكثر العلماء من الطوائف ، وفاقا للمالكية والشافعية انتهى . وقيل : إنها تعديل له مطلقا . اختاره القاضي وأبو الخطاب والحنفية وبعض الشافعية ، عملا بظاهر الحال ( ولا يقبل تعديل مبهم كحدثني ثقة أو عدل أو من لا أتهمه ) عند بعض أصحابنا وأكثر الشافعية ، لاحتمال كونه مجروحا عند غيره . وذكره القاضي وأبو الخطاب وابن عقيل من صور [ ص: 286 ] المرسل على الخلاف فيه . قال الروياني من الشافعية : هو كالمرسل ، وصححه ابن الصباغ . قال ابن مفلح : وكذا أبو المعالي ، واختار قبوله ; وأن الشافعي أشار إليه ، وقبله المجد من أصحابنا ، وإن لم يقبل المرسل والمجهول . فقال : إذا قال العدل : حدثني الثقة ، أو من لا أتهمه ، أو رجل عدل ، ونحو ذلك . فإنه يقبل ، وإن رددنا المرسل والمجهول ; لأن ذلك تعديل صريح عندنا انتهى . وكذا قالابن قاضي الجبل . ونقل ابن الصلاح عن أبي حنيفة : أنه يقبل . وقيل : ونقله ابن الصلاح عن اختيار بعض المحققين ; إنه إن كان القائل لذلك من أئمة الشأن العارفين بما يشترطه هو وخصومه في العدل ، وقد ذكره في مقام الاحتجاج فيقبل ; لأن مثل هؤلاء لا يطلق في مقام الاحتجاج إلا في موضع يأمن أن يخالف فيه من أطلق أنه ثقة ، وكان الشافعي رضي الله عنه إذا قال : حدثني الثقة ، فتارة يريد به أحمد ، وتارة يريد به يحيى بن حسان ، وتارة يريد به ابن أبي فديك ، وتارة سعيد بن سالم القداح ، وتارة إسماعيل بن إبراهيم . واشتهر عنه ذلك فيه ، وتارة يريد مالكا ( والجرح ) هو ( أن ينسب ) بالبناء للمفعول ( إلى قائل ما ) أي شيء ( يرد لأجله ) أي لأجل ذلك الشيء ( قوله ) أي قول ذلك القائل من خبر ، أو شهادة من فعل معصية ، أو ارتكاب ذنب ، أو ما يخل بالعدالة ( والتعديل ضده ) وهو أن ينسب إلى قائل ما يقبل لأجله قوله ، من فعل الخير والعفة والمروءة ، والتدين بفعل الواجبات وترك المحرمات . ونحو ذلك

التالي السابق


الخدمات العلمية