الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              465 - الحارث بن أسد المحاسبي

              ومنهم المشاهد المراقبي والمساعد المصاحبي أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي ، كان لألوان الحق مشاهدا ومراقبا ، ولآثار الرسول - عليه السلام - مساعدا ومصاحبا ، تصانيفه مدونة مسطورة ، وأقواله مبوبة مشهورة ، وأحواله [ ص: 74 ] مصححة مذكورة ، كان في علم الأصول راسخا وراجحا ، وعن الخوض في الفضول جافيا وجانحا ، وللمخالفين الزائغين قامعا وناطحا ، وللمريدين والمنيبين قابلا وناصحا ، وقيل : إن فعل ذوي العقول الأخذ بالأصول ، والترك للمفضول ، واختيار ما اختاره الرسول - صلى الله عليه وسلم - .

              أخبرني جعفر بن محمد الخواص - في كتابه - وحدثني عنه أحمد بن محمد بن مقسم ، قال : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول : كان الحارث المحاسبي يجيء إلى منزلنا ، فيقول : " اخرج معي نصحن ، فأقول له : تخرجني من عزلتي وأمني على نفسي إلى الطرقات والآفات ورؤية الشهوات ؟ فيقول : اخرج معي ولا خوف عليك ، فأخرج معه ، فكان الطريق فارغا من كل شيء ، لا نرى شيئا نكرهه ، فإذا حصلت معه في المكان الذي يجلس فيه قال لي : سلني ، فأقول له : ما عندي سؤال أسألك ، فيقول لي : سلني عما يقع في نفسك ، فتنثال علي السؤالات ، فأسأله عنها ، فيجيبني عليها للوقت ، ثم يمضي إلى منزله فيعملها كتبا " .

              أخبرني جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه أحمد بن محمد بن مقسم ، قال : سمعت الجنيد يقول : كنت كثيرا أقول للحارث : عزلتي أنسي ، وتخرجني إلى وحشة رؤية الناس والطرقات ؟ فيقول لي : " كم تقول لي : أنسي في عزلتي ، لو أن نصف الخلق تقربوا مني ما وجدت بهم أنسا ، ولو أن النصف الآخر نأى عني ما استوحشت لبعدهم " .

              أخبرني جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه أبو الحسن ، قال : سمعت الجنيد ، يقول : كان الحارث كثير الضر ، فاجتاز بي يوما وأنا جالس على بابنا ، فرأيت في وجهه زيادة الضر من الجوع ، فقلت له : يا عم ، لو دخلت إلينا نلت من شيء عندنا ؟ فقال : أو تفعل ؟ قلت : نعم ، وتسرني بذلك وتبرني ، فدخلت بين يديه ودخل معي ، وعمدت إلى بيت عمي ، وكان أوسع من بيتنا ، لا يخلو من أطعمة فاخرة لا يكون مثلها في بيتنا ، سريعا ، فجئت بأنواع كثيرة من الطعام ، فوضعته بين يديه ، فمد يده وأخذ لقمة ، فرفعها إلى فيه ، فرأيته يلوكها [ ص: 75 ] ولا يزدردها ، فخرج وما كلمني ، فلما كان الغد لقيته ، فقلت : يا عم ، سررتني ثم نغصت علي ، فقال : يا بني ، أما الفاقة فكانت شديدة ، وقد اجتهدت أن أنال من الطعام الذي قدمته إلي ، ولكن بيني وبين الله علامة ، إذا لم يكن الطعام عند الله مرضيا ارتفع إلى أنفي زمنه فورة ، فلم تقبله نفسي ، فقد رميت بتلك اللقمة في دهليزكم وخرجت " .

              أخبرني جعفر ، وحدثني عنه أبو الحسن ، قال : سمعت الجنيد ، يقول : مات أبو الحارث المحاسبي وإن الحارث لمحتاج إلى دانق فضة ، وخلف أبوه مالا كثيرا وما أخذ منه حبة واحدة ، وقال : " أهل ملتين لا يتوارثان ، وكان أبوه واقفيا " .

              سمعت أبا الحسن بن مقسم ، يقول : سمعت أبا علي بن خيران الفقيه ، يقول : رأيت أبا عبد الله الحارث بن أسد بباب الطاق في وسط الطريق متعلقا بأبيه والناس قد اجتمعوا عليه ، يقول : " طلق امرأتك ؛ فإنك على دين وهي على غيره " .

              سمعت أبا الحسن بن مقسم ، يقول : حدثني محمد بن إسحاق بن الإمام ، حدثني أبي ، قال : سألت الحارث بن أسد المحاسبي : ما تفسير "خير الرزق ما يكفي " ؟ قال : " هو قوت يوم بيوم ، ولا تهتم لرزق غد " .

              أخبرني جعفر بن محمد الخواص - في كتابه - وحدثني عنه أبو علي الحسين بن يحيى بن زكريا الفقيه ، قال : سمعت أبا العباس بن مسروق ، والجنيد بن محمد ، يقولان : سمعنا الحارث المحاسبي ، يقول : " فقدنا ثلاثة أشياء لا نكاد نجدها إلى الممات : حسن الصيانة ، وحسن القول مع الديانة ، وحسن الإخاء مع الأمانة " .

              أخبرني جعفر - في كتابه - وحدثني عنه أبو طاهر محمد بن إبراهيم بن أحمد ، قال : سمعت أبا عثمان البلدي ، يقول : بلغني عن الحارث المحاسبي ، أنه قال : " العلم يورث المخافة ، والزهد يورث الراحة ، والمعرفة تورث الإنابة ، قال : قال الحارث : من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص ، زين ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة ؛ لقوله : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) " .

              أخبرني أبو جعفر - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم ، قال : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول : قال الحارث : " لا ينبغي للعبد أن يطلب الورع بتضييع [ ص: 76 ] الواجب ، وقال : قال الحارث : إذا أنت لم تسمع نداء الله فكيف تجيب داعي الله ؟ ومن استغنى بشيء دون الله فقد جهل قدر الله ، وقال : الظالم نادم ، وإن مدحه الناس ، والمظلوم سالم وإن ذمه الناس ، والقانع غني وإن جاع ، والحريص فقير وإن ملك " .

              أخبرني جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم ، قال : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول : قال الحارث بن أسد : " أصل الطاعة الورع ، وأصل الورع التقوى ، وأصل التقوى محاسبة النفس ، وأصل محاسبة النفس الخوف والرجاء ، وأصل الخوف والرجاء معرفة الوعد والوعيد ، ومعرفة أصل الوعد والوعيد عظم الجزاء ، وأصل ذلك الفكرة والعبرة ، وأصدق بيت قالته العرب قول حسان بن ثابت حيث يقول :


              فما حملت من ناقة فوق رحلها أعف وأوفى ذمة من محمد

              .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية