الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            كتاب الصلح وأحكام الجوار باب جواز الصلح عن المعلوم والمجهول والتحليل منهما [ ص: 302 ] عن أم سلمة قالت : { جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم تختصمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض ، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها أسطاما في عنقه يوم القيامة ، فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما : حقي لأخي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذ قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما ، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه } رواه أحمد وأبو داود وفي رواية لأبي داود { إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه } )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه وسكت عنه أبو داود والمنذري ، وفي إسناده أسامة بن زيد بن أسلم المدني مولى عمر ، قال النسائي وغيره : ليس بالقوي ، وأصل هذا الحديث في الصحيحين ، وسيأتي في باب أن حكم الحاكم ينفذ ظاهرا لا باطنا من كتاب الأقضية قوله : ( إنكم تختصمون إلى رسول الله ) صلى الله عليه وسلم يعني : في الأحكام قوله : ( وإنما أنا بشر ) البشر يطلق على الواحد كما في هذا الحديث ، وعلى الجمع نحو قوله تعالى { نذيرا للبشر } والمراد إنما أنا مشارك لغيري في البشرية وإن كان صلى الله عليه وسلم زائدا عليهم بما أعطاه الله تعالى من المعجزات الظاهرة والاطلاع على بعض الغيوب

                                                                                                                                            والحصر هاهنا مجازي : أي : باعتبار علم الباطن وقد حققه علماء المعاني وأشرنا إلى طرف من تحقيقه في كتاب الصلاة قوله : ( ألحن ) أي : أفطن وأعرف ، ويجوز أن يكون معناه أفصح تعبيرا عنها وأظهر احتجاجا ، فربما جاء بعبارة تخيل إلى السامع أنه محق وهو في الحقيقة مبطل ، والأظهر [ ص: 303 ] أن يكون معناه أبلغ كما في رواية في الصحيحين : أي : أحسن إيرادا للكلام ، وأصل اللحن : الميل عن جهة الاستقامة ، يقال لحن فلان في كلامه : إذا مال عن صحيح النطق ويقال لحنت لفلان : إذا قلت له قولا يفهمه ويخفى على غيره ; لأنه بالتورية ميل كلامه عن الواضح المفهوم قوله : ( وإنما أقضي . . . إلخ ) فيه دليل على أن الحاكم إنما يحكم بظاهر ما يسمع من الألفاظ مع جواز كون الباطن خلافا ولم يتعبد بالبحث عن البواطن باستعمال الأشياء التي تفضي في بعض الأحوال إلى ذلك كأنواع السياسة والمداهاة قوله : ( فلا يأخذه ) فيه أن حكم الحاكم لا يحل به الحرام كما زعم بعض أهل العلم قوله : ( قطعة ) بكسر القاف : أي طائفة قوله :

                                                                                                                                            ( أسطاما ) بضم الهمزة وسكون السين المهملة قال في القاموس : السطام بالكسر : المسعار لحديدة مفطوحة تحرك بها النار ، ثم قال : والإسطام : المسعار ا هـ . والمراد هنا الحديدة التي تسعر بها النار : أي : يأتي يوم القيامة حاملا لها مع أثقاله قوله : ( حقي لأخي ) فيه دليل على صحة هبة المجهول وهبة المدعى قبل ثبوته وهبة الشريك لشريكه قوله : ( أما إذ قلتما ) لفظ أبي داود : { إذ فعلتما ما فعلتما فاقتسما } قال في شرح السنن : أما بتخفيف الميم يحتمل أن يكون بمعنى حقا وإذ للتعليل قوله : ( فاقتسما ) فيه دليل على أن الهبة إنما تملك بالقبول ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهما بالاقتسام بعد أن وهب كل واحد نصيبه من الآخر قوله : ( ثم توخيا ) بفتح الواو والخاء المعجمة قال في النهاية : أي : اقصدا الحق فيما تصنعان من القسمة ، يقال توخيت الشيء أتوخاه توخيا : إذا قصدت إليه وتعمدت فعله قوله : ( ثم استهما ) أي : ليأخذ كل واحد منكما ما تخرجه القرعة من القسمة ليتميز سهم كل واحد منكما عن الآخر

                                                                                                                                            وفي الأمر بالقرعة عند المساواة أو المشاحة وقد وردت القرعة في كتاب الله في موضعين : أحدهما قوله تعالى: { إذ يلقون أقلامهم } والثاني قوله تعالى: { فساهم فكان من المدحضين } وجاءت في خمسة أحاديث من السنة : الأول هذا الحديث ، الثاني : حديث : { أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد السفر أقرع بين نسائه } الثالث { أنه صلى الله عليه وسلم أقرع في ستة مملوكين } الرابع : قوله صلى الله عليه وسلم : { لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول لاستهموا عليه } الخامس حديث الزبير : { إن صفية جاءت بثوبين لتكفن فيهما حمزة ، فوجدنا إلى جنبه قتيلا ، فقلنا : لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب ، فوجدنا أحد الثوبين أوسع من الآخر ، فأقرعنا عليهما ثم كفنا كل واحد في الثوب الذي خرج له } والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على هذا وقرره ; لأنه كان حاضرا هنالك ، ويبعد أن يخفى عليه مثل ذلك في حق حمزة ، وقد كانت الصحابة تعتمد القرعة في كثير من الأمور كما روي : ، " أنه تشاح الناس يوم القادسية في الأذان فأقرع بينهم سعد "

                                                                                                                                            قوله : ( ثم ليحلل ) . . . إلخ ، أي : ليسأل كل واحد منكما صاحبه أن [ ص: 304 ] يجعله في حل من قبله بإبراء ذمته وفيه دليل على أنه يصح الإبراء من المجهول ، ; لأن الذي في ذمة كل واحد هاهنا غير معلوم وفيه أيضا صحة الصلح بمعلوم عن مجهول ، ولكن لا بد مع ذلك من التحليل وحكي في البحر عن الناصر والشافعي أنه لا يصح الصلح بمعلوم عن مجهول قوله : ( برأيي ) هذا مما استدل به أهل الأصول على جواز العمل بالقياس وأنه حجة ، وكذا استدلوا بحديث بعث معاذ المعروف




                                                                                                                                            الخدمات العلمية