الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 462 ] تزويجه عليه الصلاة والسلام

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خديجة بنت خويلد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال على مالها مضاربة فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج لها في مالها تاجرا إلى الشام ، وتعطيه أفضل ما تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له : ميسرة فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ، وخرج في مالها ذاك ، وخرج معه غلامها ميسرة حتى نزل الشام فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان فاطلع الراهب إلى ميسرة فقال : من هذا الرجل الذي نزل تحت الشجرة ؟ فقال ميسرة : هذا رجل من قريش من أهل الحرم . فقال له الراهب : ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي . ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته - يعني تجارته - التي خرج بها ، واشترى ما أراد أن يشتري ، ثم أقبل قافلا إلى مكة ، ومعه ميسرة فكان ميسرة - فيما يزعمون - إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى [ ص: 463 ] ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما قدم مكة على خديجة بمالها ، باعت ما جاء به فأضعف أو قريبا ، وحدثها ميسرة عن قول الراهب ، وعما كان يرى من إظلال الملكين إياه ، وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من كرامتها فلما أخبرها ميسرة ما أخبرها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له : - فيما يزعمون - يا ابن عم إني قد رغبت فيك; لقرابتك وسطتك في قومك ، وأمانتك وحسن خلقك ، وصدق حديثك ، ثم عرضت نفسها عليه . وكانت أوسط نساء قريش نسبا ، وأعظمهن شرفا ، وأكثرهن مالا كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لأعمامه فخرج معه عمه حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها عليه الصلاة والسلام .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن هشام : فأصدقها عشرين بكرة ، وكانت أول امرأة تزوجها ، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت قال ابن إسحاق : فولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولده كلهم - إلا إبراهيم - : القاسم وكان به يكنى والطيب والطاهر وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة . [ ص: 464 ] قال ابن هشام أكبرهم القاسم ثم الطيب ثم الطاهر ، وأكبر بناته رقية ثم زينب ثم أم كلثوم ثم فاطمة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال البيهقي عن الحاكم : قرأت بخط أبي بكر بن أبي خيثمة حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال : أكبر ولده عليه الصلاة والسلام القاسم ثم زينب ثم عبد الله ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية وكان أول من مات من ولده القاسم ثم عبد الله ، وبلغت خديجة خمسا وستين سنة ، ويقال : خمسين وهو أصح ، وقال غيره : بلغ القاسم أن يركب الدابة والنجيبة ثم مات بعد النبوة ، وقيل : مات وهو رضيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن له مرضعا في الجنة يستكمل رضاعه والمعروف أن هذا في حق إبراهيم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال يونس بن بكير : حدثنا إبراهيم بن عثمان عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : ولدت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين وأربع نسوة; القاسم وعبد الله وفاطمة وأم كلثوم وزينب ورقية ، وقال [ ص: 465 ] الزبير بن بكار عبد الله هو الطيب وهو الطاهر سمي بذلك لأنه ولد بعد النبوة فماتوا قبل البعثة ، وأما بناته فأدركن البعثة ودخلن في الإسلام ، وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم قال : ابن هشام ، وأما إبراهيم فمن مارية القبطية التي أهداها له المقوقس صاحب إسكندرية من حفن من كورة أنصنا ، وسنتكلم على أزواجه وأولاده عليه الصلاة والسلام في باب مفرد لذلك في آخر السيرة إن شاء الله تعالى وبه الثقة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن هشام : وكان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة فيما حدثني غير واحد من أهل العلم منهم أبو عمرو المدني ، وقال يعقوب بن سفيان : كتبت عن إبراهيم بن المنذر حدثني عمر بن أبي بكر الموصلي حدثني غير واحد أن عمرو بن أسد زوج خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره خمسا وعشرين سنة ، وقريش تبني [ ص: 466 ] الكعبة ، وهكذا نقل البيهقي عن الحاكم أنه كان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة وكان عمرها إذ ذاك خمسا وثلاثين ، وقيل خمسا وعشرين سنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال البيهقي : باب ما كان يشتغل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج خديجة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو بكر بن عبد الله أخبرنا الحسن بن سفيان حدثنا سويد بن سعيد حدثنا عمرو بن أبي يحيى بن سعيد القرشي عن جده سعيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بعث الله نبيا إلا راعي غنم . فقال له أصحابه : وأنت يا رسول الله ؟ قال : وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط رواه البخاري عن أحمد بن محمد المكي عن عمرو بن يحيى به ، ثم روى البيهقي من طريق الربيع بن بدر وهو ضعيف عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : آجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوص وروى البيهقي من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس أن أبا خديجة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو - أظنه قال - سكران .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال البيهقي : [ ص: 467 ] أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان أنا عبد الله بن جعفر حدثنا يعقوب بن سفيان قال حدثني إبراهيم بن المنذر حدثني عمر بن أبي بكر الموصلي حدثني عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه عن مقسم بن أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل أن عبد الله بن الحارث حدثه أن عمار بن ياسر كان إذا سمع ما يتحدث به الناس عن تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة وما يكثرون فيه يقول : أنا أعلم الناس بتزويجه إياها إني كنت له تربا وكنت له إلفا وخدنا ، وإني خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم حتى إذا كنا بالحزورة أجزنا على أخت خديجة ، وهي جالسة على أدم تبيعها فنادتني فانصرفت إليها ، ووقف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : أما بصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة ؟ قال عمار : فرجعت إليه فأخبرته فقال : بل لعمري فذكرت لها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : اغدوا علينا إذا أصبحنا . فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة ، وألبسوا أبا خديجة حلة ، وصفرت لحيته ، وكلمت أخاها فكلم أباه وقد سقي خمرا فذكر له [ ص: 468 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه وسأله أن يزوجه فزوجه خديجة . وصنعوا من البقرة طعاما فأكلنا منه ، ونام أبوها ثم استيقظ صاحيا فقال ما هذه الحلة وما هذه الصفرة . وهذا الطعام ؟ فقالت له ابنته التي كانت قد كلمت عمارا : هذه حلة كساكها محمد بن عبد الله ختنك ، وبقرة أهداها لك فذبحناها حين زوجته خديجة . فأنكر أن يكون زوجه ، وخرج يصيح حتى جاء الحجر ، وخرج بنو هاشم برسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءوه فكلموه فقال : أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته خديجة ؟ فبرز له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نظر إليه قال إن كنت زوجته فسبيل ذاك ، وإن لم أكن فعلت فقد زوجته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر الزهري في سيره أن أباها زوجها منه وهو سكران ، وذكر نحو ما تقدم حكاه السهيلي قال الموصلي : المجتمع عليه أن عمها عمرو بن أسد هو الذي زوجها منه . وهذا هو الذي رجحه السهيلي ، وحكاه عن ابن عباس ، وعائشة قالت : وكان خويلد مات قبل الفجار [ ص: 469 ] وهو الذي نازع تبعا حين أراد أخذ الحجر الأسود إلى اليمن فقام في ذلك خويلد ، وقام معه جماعة من قريش ، ثم رأى تبع في منامه ما روعه فنزع عن ذلك ، وترك الحجر الأسود مكانه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر ابن إسحاق في آخر السيرة : أن أخاها عمرو بن خويلد هو الذي زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية