الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 396 ] ثم دخلت سنة تسع وستين وثلاثمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      في المحرم منها توفي الأمير عمران بن شاهين صاحب بلاد البطيحة منذ أربعين سنة ، تغلب عليها ، وعجز عنه الأمراء والملوك والخلفاء ، وبعثت إليه الجنود والسرايا والجيوش غير مرة ، فكل ذلك يفلها ويكسرها ، وكل ما له في تمكن وقوة ، ومكث كذلك هذه المدة كلها ، ومع هذا كله مات على فراشه حتف أنفه - فلا نامت أعين الجبناء - وقام بالأمر من بعده ولده الحسن ، فرام عضد الدولة أن ينتزع الملك من يده ، فأرسل إليه سرية فيها خلق من الجنود ، فكسرهم الحسن بن عمران بن شاهين وردهم خائبين ، وكاد أن يتلفهم بالكلية حتى أرسل إليه عضد الدولة ، فصالحه على مال يرسله إليه كل سنة ، وأخذوها من عضد الدولة ، وهذا من العجائب الغريبة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي صفر قبض على الشريف أبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي نقيب الطالبيين ، واتهم بأنه يفشي الأسرار ، وأن عز الدولة أودع عنده عقدا ثمينا ، وأتي بكتاب أنه خطه في إفشاء الأسرار ، فأنكر أنه خطه ، وكان مزورا عليه ، [ ص: 397 ] واعترف بالعقد ، فأخذ منه ، وعزل عن النقابة ، وولي غيره فيها ، وكان مظلوما في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا الشهر أيضا عزل عضد الدولة قاضي القضاة أبا محمد بن معروف ، وولى غيره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي شعبان ورد البريد من مصر إلى عضد الدولة بمراسلات كثيرة ، فرد الجواب بما مضمونه صدق النية وحسن الطوية ، ثم سأل عضد الدولة من الطائع أن يجدد عليه الخلع والجواهر ، وأن يزيد في ألقابه تاج الدولة ، فأجابه إلى ذلك كله ، فخلع عليه من أنواع الملابس ما لم يتمكن من تقبيل الأرض من كثرتها ، وفوض إليه ما وراء داره من الأمور ومصالح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وحضر ذلك الرؤساء والأمراء وأعيان الناس ، وكان يوما مشهودا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأرسل في رمضان إلى الذعار من الأعراب من بني شيبان وغيرهم ، فعقرهم وكسرهم وقهرهم ، وكان أميرهم ضبة بن محمد الأسدي متحصنا بعين التمر نيفا وثلاثين سنة ، فأخذت ديارهم ، وأخذت أموالهم ، وحالت أحوالهم ، ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الثلاثاء لتسع بقين من ذي القعدة تزوج الخليفة الطائع لله بنت عضد الدولة الكبرى ، وعقد العقد بحضرة الأعيان والرؤساء ، وكان عقدا هائلا حافلا ، على صداق مبلغه مائة ألف دينار ، ويقال : مائتا ألف دينار ، وكان وكيل عضد الدولة الشيخ أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي النحوي ، صاحب [ ص: 398 ] " الإيضاح والتكملة " ، وكان الذي خطب خطبة العقد القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي ، وكان يوما مشهودا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها كان مقتل أبي تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان بالشام ، قريبا من نوى وأعمالها ، وكانت معه أخته جميلة وزوجته بنت عمه سيف الدولة ، فردتا إلى ابن عمه سعد الدولة بن سيف الدولة صاحب حلب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الأثير : وفيها جدد عضد الدولة عمارة بغداد ومحاسنها ، وجدد المساجد والمشاهد ، وأجرى على الفقهاء والأئمة الأرزاق والجرايات ، من الفقهاء والمحدثين والأطباء والحساب وغيرهم ، وأطلق الصلات لأرباب البيوتات والشرف ، وألزم أصحاب الأملاك ببغداد بعمارة بيوتهم ودورهم ، ومهد الطرقات ، وأطلق المكوس ، وأصلح طريق الحجاج من بغداد إلى مكة وأرسل الصدقات للمجاورين بالحرمين ، قال : فأذن لوزيره نصر بن هارون - وكان نصرانيا - بعمارة البيع والديرة ، وإطلاق الأموال لفقرائهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي حسنويه بن الحسين الكردي ، وكان قد استحوذ على نواحي بلاد الدينور وهمذان ونهاوند مدة خمسين سنة ، وكان حسن السيرة كثير الصدقة بالحرمين وغيرهما ، فلما توفي اختلف أولاده من بعده ، وتمزق شملهم ، وتمكن عضد الدولة من أكثر بلاده ، وقويت شوكته في الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة ركب عضد الدولة في جيوش كثيفة إلى بلاد أخيه فخر [ ص: 399 ] الدولة ، وذلك لما كان بلغه من ممالآت عز الدولة واتفاقهما عليه ، فلما تفرغ من أعدائه ، ركب ، فتسلم بلاد أخيه فخر الدولة ; همذان والري وما بينهما من البلاد ، وسلم ذلك إلى أخيه مؤيد الدولة بويه بن ركن الدولة ; ليكون نائبه عليها ، ثم سار إلى بلاد حسنويه الكردي ، فتسلم بلاده وأخذ حواصله وذخائره ، وكانت جليلة كثيرة جدا ، وحبس بعض أولاده ، وأمر بعضهم ، وأرسل إلى الأكراد الهكارية ، فأخذ منهم بعض بلادهم ، وعظم شأن عضد الدولة وارتفع صيته وذكره إلا أنه أصابه في هذه السفرة داء الصرع ، وقد كان تقدم له مثله في الموصل فكان يكتمه ، ولكنه غلب به كثرة النسيان ، فلا يذكر الشيء إلا بعد جهد جهيد ، والدنيا لا تسر بقدر ما تضر :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      دار إذا ما أضحكت في يومها أبكت غدا بعدا لها من دار



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية