الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 428 ] سورة الفرقان قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فصل أكبر الكبائر ثلاث : الكفر ثم قتل النفس بغير الحق ثم الزنا كما رتبها الله في قوله : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون } وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال : { قلت يا رسول الله : أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت : ثم أي ؟ قال : ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك . قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزاني بحليلة جارك } .

                ولهذا الترتيب وجه معقول وهو أن قوى الإنسان ثلاث : قوة العقل وقوة الغضب وقوة الشهوة . فأعلاها القوة العقلية - التي يختص بها الإنسان دون سائر الدواب وتشركه فيها الملائكة كما قال أبو بكر عبد العزيز من أصحابنا وغيره : خلق للملائكة عقول بلا شهوة [ ص: 429 ] وخلق للبهائم شهوة بلا عقل وخلق للإنسان عقل وشهوة فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة ومن غلبت شهوته عقله فالبهائم خير منه . ثم القوة الغضبية التي فيها دفع المضرة ثم القوة الشهوية التي فيها جلب المنفعة .

                ومن الطبائعيين من يقول : القوة الغضبية هي الحيوانية ; لاختصاص الحيوان بها دون النبات . والقوة الشهوية هي النباتية لاشتراك الحيوان والنبات فيها . واختصاص النبات بها دون الجماد .

                لكن يقال : إن أراد أن نفس الشهوة مشتركة بين النبات والحيوان فليس كذلك فإن النبات ليس فيه حنين ولا حركة إرادية ولا شهوة ولا غضب . وإن أراد نفس النمو والاغتذاء فهذا تابع للشهوة وموجبها .

                وله نظير في الغضب . وهو أن موجب الغضب وتابعه هو الدفع والمنع وهذا معنى موجود في سائر الأجسام الصلبة القوية فذات الشهوة والغضب مختص بالحي . وأما موجبهما من الاعتداء والدفع فمشترك بينهما وبين النبات القوي فقوة الدفع والمنع موجود في النبات الصلب القوي دون اللين الرطب فتكون قوة الدفع مختصة ببعض النبات ; لكنه موجود في سائر الأجسام الصلبة فبين الشهوة والغضب عموم وخصوص .

                [ ص: 430 ] وسبب ذلك : أن قوى الأفعال في النفس إما جذب وإما دفع فالقوة الجاذبة الجالبة للملائم هي الشهوة وجنسها : من المحبة والإرادة ونحو ذلك والقوة الدافعة المانعة للمنافي هي الغضب وجنسها : من البغض والكراهة وهذه القوة باعتبار القدر المشترك بين الإنسان والبهائم هي مطلق الشهوة والغضب وباعتبار ما يختص به الإنسان العقل والإيمان والقوى الروحانية المعترضة .

                فالكفر متعلق بالقوة العقلية الناطقة الإيمانية ; ولهذا لا يوصف به من لا تمييز له والقتل ناشئ عن القوة الغضبية وعدوان فيها . والزنا عن القوة الشهوانية . فالكفر اعتداء وفساد في القوة العقلية الإنسانية وقتل النفس اعتداء وفساد في القوة الغضبية والزنا اعتداء وفساد في القوة الشهوانية .

                ومن وجه آخر ظاهر : أن الخلق خلقهم الله لعبادته وقوام الشخص بجسده وقوام النوع بالنكاح والنسل فالكفر فساد المقصود الذي له خلقوا وقتل النفس فساد النفوس الموجودة والزنا فساد في المنتظر من النوع . فذاك إفساد الموجود وذاك إفساد لما لم يوجد بمنزلة من أفسد مالا موجودا أو منع المنعقد أن يوجد وإعدام الموجود أعظم فسادا ; فلهذا كان الترتيب كذلك .

                [ ص: 431 ] ومن وجه ثالث أن الكفر فساد القلب والروح الذي هو ملك الجسد والقتل إفساد للجسد الحامل له وإتلاف الموجود . وأما الزنا فهو فساد في صفة الوجود لا في أصله لكن هذا يختص بالزنا ومن هنا يتبين أن اللواط أعظم فسادا من الزنا .

                فصل وباعتبار القوى الثلاث انقسمت الأمم التي أفضل الجنس الإنساني ; وهم العرب والروم والفرس . فإن هذه الأمم هي التي ظهرت فيها الفضائل الإنسانية وهم سكان وسط الأرض طولا وعرضا فأما من سواهم كالسودان والترك ونحوهم فتبع .

                فغلب على العرب القوة العقلية النطقية واشتق اسمها من وصفها فقيل لهم : عرب : من الإعراب وهو البيان والإظهار وذلك خاصة القوة المنطقية .

                وغلب على الروم القوة الشهوية من الطعام والنكاح ونحوهما واشتق اسمها من ذلك فقيل لهم الروم فإنه يقال : رمت هذا أرومه إذا طلبته واشتهيته .

                [ ص: 432 ] وغلب على الفرس القوة الغضبية من الدفع والمنع والاستعلاء والرياسة واشتق اسمها من ذلك فقيل فرس كما يقال فرسه يفرسه إذا قهره وغلبه .

                ولهذا توجد هذه الصفات الثلاث غالبة على الأمم الثلاث حاضرتها وباديتها ; ولهذا كانت العرب أفضل الأمم وتليها الفرس لأن القوة الدفعية أرفع وتليها الروم .

                فصل وباعتبار هذه القوى كانت الفضائل ثلاثا : فضيلة العقل والعلم والإيمان : التي هي كمال القوة المنطقية وفضيلة الشجاعة التي هي كمال القوة الغضبية وكمال الشجاعة هو الحلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب } والحلم والكرم ملزوزان في قرن كما أن كمال القوة الشهوية العفة فإذا كان الكريم عفيفا والسخي حليما اعتدل الأمر .

                وفضيلة السخاء والجود التي هي كمال القوة الطلبية الحبية فإن السخاء يصدر عن اللين والسهولة ورطوبة الخلق كما تصدر الشجاعة عن [ ص: 433 ] القوة والصعوبة ويبس الخلق فالقوة الغضبية هي قوة النصر والقوة الشهوية قوة الرزق وهما المذكوران في قوله : { الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } والرزق والنصر مقترنان في الكتاب والسنة وكلام الناس كثيرا .

                وأما الفضيلة الرابعة التي يقال لها العدالة فهي صفة منتظمة للثلاث وهو الاعتدال فيها وهذه الثلاث الأخيرات هي الأخلاق العملية كما جاء من { حديث سعد لما قال فيه العبسي : إنه لا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية ولا يخرج في السرية } .

                فصل وباعتبار القوى الثلاث كانت الأمم الثلاث : المسلمون واليهود والنصارى فإن المسلمين فيهم العقل والعلم والاعتدال في الأمور فإن معجزة نبيهم هي علم الله وكلامه ; وهم الأمة الوسط .

                وأما اليهود فأضعفت القوة الشهوية فيهم حتى حرم عليهم من المطاعم والملابس ما لم يحرم على غيرهم وأمروا من الشدة والقوة بما أمروا به ومعاصيهم غالبها من باب القسوة والشدة لا من باب الشهوة [ ص: 434 ] والنصارى أضعفت فيهم القوة الغضبية فنهوا عن الانتقام والانتصار ولم تضعف فيهم القوة الشهوية فلم يحرم عليهم من المطاعم ما حرم على من قبلهم بل أحل لهم بعض الذي حرم عليهم وظهر فيهم من الأكل والشرب والشهوات ما لم يظهر في اليهود وفيهم من الرقة والرأفة والرحمة ما ليس في اليهود فغالب معاصيهم من باب الشهوات لا من باب الغضب وغالب طاعاتهم من باب النصر لا من باب الرزق . ولما كان فيالصوفية والفقهاء عيسوية مشروعة أو منحرفة كان فيهم من الشهوات ووقع فيهم من الميل إلى النساء والصبيان والأصوات المطربة ما يذمون به ولما كان في الفقهاء موسوية مشروعة أو منحرفة كان فيهم من الغضب ووقع فيهم من القسوة والكبر ونحو ذلك ما يذمون به .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية