الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد

ذلك إشارة إلى المذكور من الإهلاك والإسكان المأخوذين من لنهلكن - ولنسكننكم . عاد إليهما اسم الإشارة بالإفراد بتأويل المذكور ، كقوله ( ومن يفعل ذلك يلق آثاما ) .

واللام للملك ، أي : ذلك عطاء وتمليك لمن خاف مقامي ، كقوله تعالى ذلك لمن خشي ربه ، والمعنى : ذلك الوعد لمن خاف مقامي ، أي : ذلك لكم ; لأنكم خفتم مقامي ، فعدل عن ضمير الخطاب إلى من خاف مقامي لدلالة الموصول على الإيماء إلى أن الصلة علة في حصول تلك العطية .

[ ص: 208 ] ومعنى خاف مقامي خافني ، فلفظ ( مقام ) مقحم للمبالغة في تعلق الفعل بمفعوله ، كقوله تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان ; لأن المقام أصله مكان القيام ، وأريد فيه بالقيام مطلق الوجود ; لأن الأشياء تعتبر قائمة ، فإذا قيل خاف مقامي كان فيه من المبالغة ما ليس في ( خافني ) بحيث إن الخوف يتعلق بمكان المخوف منه ، كما يقال : قصر في جانبي ، ومنه قوله تعالى على ما فرطت في جنب الله ، وكل ذلك كناية عن المضاف إليه كقول زياد الأعجم :

إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج أي : في ابن الحشرج من غير نظر إلى وجود قبة ، ومنه ما في الحديث إن الله لما خلق الرحم أخذت بساق العرش وقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، أي : هذا العائذ بك القطيعة ، وخوف الله : هو خوف غضبه ; لأن غضب الله أمر مكروه لدى عبيده .

وعطف جملة وخاف وعيد على خاف مقامي مع إعادة فعل ( خاف ) دون اكتفاء بعطف وعيدي على مقامي ; لأن هذه الصلة وإن كان صريحها ثناء على المخاطبين فالمراد منها التعريض بالكافرين بأنهم لا يخافون وعيد الله ، ولولا ذلك لكانت جملة خاف مقامي تغني عن هذه الجملة ، فإن المشركين لم يعبئوا بوعيد الله وحسبوه عبثا ، قال تعالى ويستعجلونك بالعذاب ، ولذلك لم يجمع بينهما في سورة البينة ذلك لمن خشي ربه ; لأنه في سياق ذكر نعيم المؤمنين خاصة .

وهذه الآية في ذكر إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين أرضهم فكان المقام للفريقين ، فجمع في جزاء المؤمنين بإدماج التعريض بوعيد الكافرين ، وفي الجمع بينهما دلالة على أن من حق المؤمن أن يخاف غضب ربه وأن يخاف [ ص: 209 ] وعيده ، والذين يخافون غضب الله ووعيده هم المتقون الصالحون ، فآل معنى الآية إلى معنى الآية الأخرى أن الأرض يرثها عبادي الصالحون .

وقرأ الجمهور ( وعيد ) بدون ياء وصلا ووقفا ، وقرأه ورش عن نافع بدون ياء في الوقف وبإثباتها في الوصل ، وقرأه يعقوب بإثبات الياء في حالي الوصل والوقف ، وكل ذلك جائز في ياء المتكلم الواقعة مضافا إليها في غير النداء ، وفيها في النداء لغتان أخريان .

التالي السابق


الخدمات العلمية