الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر يوم البردان

فكان من حديثه أن زياد بن الهبولة ملك الشام ، ، وكان من سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة . فأغار على حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث الكندي ، ملك عرب بنجد ونواحي العراق وهو يلقب آكل المرار ، وكان حجر قد أغار في كندة وربيعة على البحرين ، فبلغ زيادا خبرهم فسار إلى أهل حجر وربيعة وأموالهم ، وهم خلوف ورجالهم في غزاتهم المذكورة ، فأخذ الحريم والأموال ، وسبى فيهم هندا بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية .

وسمع حجر وكندة وربيعة بغارة زياد ، فعادوا عن غزوهم في طلب ابن الهبولة ، ومع حجر أشراف ربيعة عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان . وعمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وغيرهما ، فأدركوا عمرا بالبردان دون عين أباغ وقد أمن الطلب ، فنزل حجر في سفح جبل ، ونزلت بكر وتغلب وكندة مع حجر دون الجبل بالصحصحان على ماء يقال له حفير . فتعجل عوف بن محلم وعمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وقالا لحجر : إنا متعجلان إلى زياد لعلنا نأخذ منه بعض ما أصاب منا . فسارا إليه ، وكان بينه وبين عوف إخاء ، فدخل عليه وقال له : يا خير الفتيان اردد علي امرأتي أمامة . فردها عليه وهي حامل ، فولدت له بنتا أراد عوف أن يئدها فاستوهبها منه عمرو بن أبي ربيعة وقال : [ ص: 459 ] لعلها تلد أناسا ، فسميت أم أناس ، فتزوجها الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار ، فولدت عمرا ، ويعرف بابن أم أناس .

ثم إن عمرو بن أبي ربيعة قال لزياد : يا خير الفتيان اردد علي ما أخذت من إبلي . فردها عليه وفيها فحلها ، فنازعه الفحل إلى الإبل ، فصرعه عمرو فقال له زياد : يا عمرو لو صرعتم يا بني شيبان الرجال كما تصرعون الإبل لكنتم أنتم أنتم ! فقال له عمرو : لقد أعطيت قليلا ، وسميت جليلا ، وجررت على نفسك ويلا طويلا ! ولتجدن منه ، ولا والله لا تبرح حتى أروي سناني من دمك ! ثم ركض فرسه حتى صار إلى حجر ، فلم يوضح له الخبر ، فأرسل سدوس بن شيبان بن ذهل وصليع بن عبد غنم يتجسسان له الخبر ويعلمان علم العسكر ، فخرجا حتى هجما على عسكره ليلا وقد قسم الغنيمة وجيء بالشمع فأطعم الناس تمرا وسمنا ، فلما أكل الناس نادى : من جاء بحزمة حطب فله قدرة تمر . فجاء سدوس وصليع بحطب وأخذا قدرتين من تمر وجلسا قريبا من قبته . ثم انصرف صليع إلى حجر فأخبره بعسكر زياد وأراه التمر .

وأما سدوس فقال : لا أبرح حتى آتيه بأمر جلي . وجلس مع القوم يتسمع ما يقولون ، وهند امرأة حجر خلف زياد ، فقالت لزياد : إن هذا التمر أهدي إلى حجر من هجر ، والسمن من دومة الجندل . ثم تفرق أصحاب زياد عنه ، فضرب سدوس يده إلى جليس له وقال له : من أنت ؟ مخافة أن يستنكره الرجل . فقال : أنا فلان بن فلان . ودنا سدوس من قبة زياد بحيث يسمع كلامه ، ودنا زياد من امرأة حجر فقبلها وداعبها وقال لها : ما ظنك الآن بحجر ؟ فقالت : ما هو ظن ولكنه يقين ، إنه والله لن يدع طلبك حتى تعاين القصور الحمر ، يعني قصور الشام ، وكأني به في فوارس من بني شيبان يذمرهم ويذمرونه ، وهو شديد الكلب تزبد شفتاه كأنه بعير أكل مرارا ، فالنجاء النجاء ! فإن وراءك طالبا حثيثا ، وجمعا كثيفا ، وكيدا متينا ، ورأيا صليبا فرفع يده فلطمها ثم قال لها : ما قلت هذا إلا من عجبك به وحبك له ! فقالت : والله ما أبغضت أحدا بغضي له [ ص: 460 ] ولا رأيت رجلا أحزم منه نائما ومستيقظا ، إن كان لتنام عيناه فبعض أعضائه مستيقظ ! وكان إذا أراد النوم أمرني أن أجعل عنده عسا من لبن ، فبينا هو ذات ليلة نائم وأنا قريب منه أنظر إليه ، إذ أقبل أسود سالخ إلى رأسه فنحى رأسه ، فمال إلى يده فقبضها ، فمال إلى رجله فقبضها ، فمال إلى العس فشربه ثم مجه . فقلت : يستيقظ فيشربه فيموت فأستريح منه فانتبه من نومه فقال : علي بالإناء ، فناولته فشمه ثم ألقاه فهريق . فقال : أين ذهب الأسود ؟ فقلت : ما رأيته . فقال : كذبت والله ! وذلك كله يسمعه سدوس ، فسار حتى أتى حجرا ، فلما دخل عليه وقال :

أتاك المرجفون بأمر غيب على دهش وجئتك باليقين     فمن يك قد أتاك بأمر لبس
فقد آتي بأمر مستبين



ثم قص عليه ما سمع ، فجعل حجر يعبث بالمرار ويأكل منه غضبا وأسفا ، ولا يشعر أنه يأكله من شدة الغضب ، فلما فرغ سدوس من حديثه وجد حجر المرار فسمي يومئذ آكل المرار ، والمرار نبت شديد المرارة لا تأكله دابة إلا قتلها .

ثم أمر حجر فنودي في الناس ، وركب وسار إلى زياد فاقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزم زياد وأهل الشام وقتلوا قتلا ذريعا ، واستنقذت بكر وكندة ما كان بأيديهم من الغنائم والسبي ، وعرف سدوس زيادا فحمل عليه فاعتنقه وصرعه وأخذه أسيرا ، فلما رآه عمرو بن أبي ربيعة حسده فطعن زيادا فقتله . فغضب سدوس وقال : قتلت أسيري وديته دية ملك ، فتحاكما إلى حجر ، فحكم على عمرو وقومه لسدوس بدية ملك وأعانهم من ماله . وأخذ حجر زوجته هندا فربطها في فرسين ثم ركضها حتى قطعاها ، ويقال : بل أحرقها ، وقال فيها :

إن من غره النساء بشيء     بعد هند لجاهل مغرور
حلوة العين والحديث ومر     كل شيء أجن منها الضمير
كل أنثى وإن بدا لك منها     آية الحب حبها خيتعور



ثم عاد إلى الحيرة .

[ ص: 461 ] قلت : هكذا قال بعض العلماء إن زياد بن هبولة السليحي ملك الشام غزا حجرا ، وهذا غير صحيح لأن ملوك سليح كانوا بأطراف الشام مما يلي البر من فلسطين إلى قنسرين والبلاد للروم ، ومنهم أخذت غسان هذه البلاد ، وكلهم كانوا عمالا لملوك الروم كما كان ملوك الحيرة عمالا لملوك الفرس على البر والعرب ، ولم يكن سليح ولا غسان مستقلين بملك الشام ولا بشبر واحد على سبيل التفرد والاستقلال .

وقولهم : ملك الشام ، غير صحيح ، وزياد بن هبولة السليحي ملك مشارف الشام أقدم من حجر الذي ملك الحيرة والعرب بالعراق أيام قباذ أبي أنوشروان . وبين ملك قباذ والهجرة نحو مائة وثلاثين سنة ، وقد ملكت غسان أطراف الشام بعد سليح ستمائة سنة ، وقيل : خمسمائة سنة ، وأقل ما سمعت فيه ثلاثمائة سنة وست عشرة سنة ، وكانوا بعد سليح ولم يكن زياد آخر ملوك سليح ، فتزيد المدة زيادة أخرى ، وهذا تفاوت كثير فكيف يستقيم أن يكون ابن هبولة الملك أيام حجر حتى يغير عليه ؟ ! وحيث أطبقت رواة العرب على هذه الغزاة فلا بد من توجيهها ، وأصلح ما قيل فيه : إن زياد بن هبولة المعاصر لحجر كان رئيسا على قوم أو متغلبا على بعض أطراف الشام حتى يستقيم هذا القول ، والله أعلم .

وقولهم أيضا : إن حجرا عاد إلى الحيرة ، لا يستقيم أيضا لأن ملوك الحيرة من ولد عدي بن نصر اللخمي لم ينقطع ملكهم لها إلا أيام قباذ ، فإنه استعمل الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار كما ذكرناه قبل . فلما ولي أنوشروان عزل الحارث وأعاد اللخميين ، ويشبه أن يكون بعض الكنديين قد ذكر هذا تعصبا ، والله أعلم .

إن أبا عبيدة ذكر هذا اليوم ولم يذكر أن ابن هبولة من سليح بل قال : هو غالب بن هبولة ملك من ملوك غسان ، ولم يذكر عوده إلى الحيرة ، فزال هذا الوهم .

وسليح بفتح السين المهملة ، وكسر اللام ، وآخره حاء مهملة .

التالي السابق


الخدمات العلمية