الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ، أم المذكورة في هذه الآية هي المعروفة عند النحويين بأم المنقطعة ، وضابطها ألا تتقدم عليها همزة تسوية نحو سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم الآية [ 2 \ 6 ] أو همزة مغنية ، عن لفظة ، أي : كقولك أزيد عندك أم عمرو ؟ أي : أيهما عندك فالمسبوقة [ ص: 340 ] بإحدى الهمزتين المذكورتين ، هي المعروفة عندهم بأم المتصلة ، والتي لم تسبق بواحدة منهما هي المعروفة بالمنقطعة كما هنا ، وأم المنقطعة تأتي لثلاثة معان .

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أن تكون بمعنى : بل الإضرابية .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن تكون بمعنى همزة استفهام الإنكار .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أن تكون بمعناهما معا فتكون جامعة بين الإضراب والإنكار ، وهذا الأخير هو الأكثر في معناها ، خلافا لابن مالك في الخلاصة في اقتصاره على أنها بمعنى : بل في قوله :

                                                                                                                                                                                                                                      وبانقطاع وبمعنى بل وفت إن تك مما قيدت به خلت



                                                                                                                                                                                                                                      ومراده بخلوها مما قيدت به : ألا تسبقها إحدى الهمزتين المذكورتين ، فإن سبقتها إحداهما ، فهي المتصلة كما تقدم قريبا ، وعلى ما ذكرنا فيكون المعنى متضمنا للإضراب عما قبله إضرابا انتقاليا ، مع معنى استفهام الإنكار ، فتضمن الآية الإنكار على الكفار في دعواهم : أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - به جنة أي : جنون يعنون : أن هذا الحق الذي جاءهم به هذيان مجنون ، قبحهم الله ما أجحدهم للحق ! وما أكفرهم ! ودعواهم عليه هذه أنه مجنون كذبها الله هنا بقوله : بل جاءهم بالحق [ 23 \ 70 ] فالإضراب ببل إبطالي .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : ليس بمجنون بل هو رسول كريم جاءكم بالحق الواضح ، المؤيد بالمعجزات الذي يعرف كل عاقل ، أنه حق ، ولكن عاندتم وكفرتم لشدة كراهيتكم للحق ، وما نفته هذه الآية الكريمة من دعواهم عليه الجنون صرح الله بنفيه في مواضع أخر كقوله تعالى : وما صاحبكم بمجنون [ 81 \ 22 ] وقوله تعالى : فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون [ 52 \ 29 ] وهذا الجنون الذي افتري على آخر الأنبياء ، افتري أيضا على أولهم ، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة عن قوم نوح أنهم قالوا فيه : إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين [ 23 \ 25 ] وقد بين في موضع آخر أن الله لم يرسل رسولا إلا قال قومه : إنه ساحر ، أو مجنون ، كأنهم اجتمعوا فتواصوا على ذلك لتواطؤ أقوالهم لرسلهم عليه ، وذلك في قوله تعالى : كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون [ 51 \ 52 - 53 ] فبين أن سبب تواطئهم على ذلك ليس التواصي به ; لاختلاف أزمنتهم ، وأمكنتهم ، ولكن الذي جمعهم على ذلك هو مشابهة بعضهم لبعض في الطغيان ، وقد أوضح هذا المعنى في سورة [ ص: 341 ] البقرة في قوله كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم [ 2 \ 118 ] فهذه الآيات تدل على أن سبب تشابه مقالاتهم لرسلهم ، هو تشابه قلوبهم في الكفر والطغيان ، وكراهية الحق وقوله : وأكثرهم للحق كارهون [ 23 \ 70 ] ذكر نحو معناه في قوله تعالى : لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون وقوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر الآية [ 22 \ 72 ] وذلك المنكر الذي تعرفه في وجوههم ، إنما هو لشدة كراهيتهم للحق ، ومن الآيات الموضحة لكراهيتهم للحق ، أنهم يمتنعون من سماعه ، ويستعملون الوسائل التي تمنعهم من أن يسمعوه ، كما قال تعالى في قصة أول الرسل الذين أرسلهم بتوحيده والنهي عن الإشراك به ، وهو نوح : وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا [ 71 \ 7 ] وإنما جعلوا أصابعهم في آذانهم ، واستغشوا ثيابهم خوف أن يسمعوا ما يقوله لهم نبيهم نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، من الحق ، والدعوة إليه ، وقال تعالى في أمة آخر الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه الآية [ 41 \ 26 ] فترى بعضهم ينهى بعضا عن سماعه ، ويأمرهم باللغو فيه ، كالصياح والتصفيق المانع من السماع لكراهتهم للحق ، ومحاولتهم أن يغلبوا الحق بالباطل .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الآية الكريمة سؤال معروف وهو أن يقال : قوله : وأكثرهم للحق كارهون [ 23 \ 70 ] يفهم من مفهوم مخالفته ، أن قليلا من الكفار ، ليسوا كارهين للحق ، وهذا السؤال وارد أيضا على آية الزخرف التي ذكرنا آنفا ، وهي قوله تعالى : ولكن أكثركم للحق كارهون [ 43 \ 78 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب عن هذا السؤال : هو ما أجاب به بعض أهل العلم بأن قليلا من الكفار ، كانوا لا يكرهون الحق ، وسبب امتناعهم عن الإيمان بالله ورسوله ليس هو كراهيتهم للحق ، ولكن سببه الأنفة والاستنكاف من توبيخ قومهم ، وأن يقولوا صبؤوا وفارقوا دين آبائهم ، ومن أمثلة من وقع له هذا أبو طالب فإنه لا يكره الحق ، الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد كان يشد عضده في تبليغه رسالته كما قدمنا في شعره في قوله :

                                                                                                                                                                                                                                      اصدع بأمرك ما عليك غضاضة



                                                                                                                                                                                                                                      الأبيات وقال فيها : [ ص: 342 ]

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد علمت بأن دين محمد     من خير أديان البرية دينا



                                                                                                                                                                                                                                      وقال فيه - صلى الله عليه وسلم - أيضا :

                                                                                                                                                                                                                                      لقد علموا أن ابننا لا مكذب     لدينا ولا يعني بقول الأباطل



                                                                                                                                                                                                                                      وقد بين أبو طالب في شعره : أن السبب المانع له من اعتناق الإسلام ليس كراهية الحق ، ولكنه الأنفة والخوف من ملامة قومه أو سبهم له كما في قوله :

                                                                                                                                                                                                                                      لولا الملامة أو حذار مسبة     لوجدتني سمحا بذاك يقينا



                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية