الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ حديث كعب عن تخلفه ]

قال ابن إسحاق : فذكر الزهري محمد بن مسلم بن شهاب ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك : أن أباه عبد الله ، وكان قائد أبيه حين أصيب بصره ، قال : سمعت أبي كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، وحديث صاحبيه ، قال : ما تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط ، غير أني كنت قد تخلفت عنه في غزوة بدر ، وكانت غزوة لم يعاتب الله ولا رسوله أحدا تخلف عنها ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج يريد عير قريش ، حتى جمع الله بينه وبين عدوه على غير ميعاد ، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة ، وحين تواثقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت غزوة بدر هي أذكر في الناس منها .

قال : كان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه [ ص: 532 ] في تلك الغزوة ، ووالله ما اجتمعت لي راحلتان قط حتى اجتمعتا في تلك الغزوة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها ، حتى كانت تلك الغزوة ، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ، واستقبل غزو عدو كثير ، فجلى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبته وأخبرهم خبره بوجهه الذي يريد ، والمسلمون من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ، لا يجمعهم كتاب حافظ ، يعني بذلك الديوان ، يقول : لا يجمعهم ديوان مكتوب .

قال كعب : فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى له ذلك ، ما لم ينزل فيه وحي من الله ، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار وأحبت الظلال ، فالناس إليها صعر ؛ فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتجهز المسلمون معه ، وجعلت أغدو لأتجهز معهم ، فأرجع ولم أقض حاجة ، فأقول في نفسي ، أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمر الناس بالجد ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا ، والمسلمون معه ، ولم أقض من جهازي شيئا ، فقلت : أتجهز بعده بيوم أو يومين ، ثم ألحق بهم ، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز ، فرجعت ولم أقض شيئا ، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا ، وتفرط الغزو ، فهممت أن أرتحل ، فأدركهم ، وليتني فعلت ، فلم أفعل ، وجعلت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطفت فيهم ، يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق ، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بني سلمة :

يا رسول الله ، حبسه برداه ، والنظر في عطفيه ؛ فقال له معاذ بن جبل : بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيرا ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 533 ] فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك ، حضرني بثي ، فجعلت أتذكر الكذب وأقول :

بماذا أخرج من سخطة رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي ؛ فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل ، وعرفت أني لا أنجو منه إلا بالصدق ، فأجمعت أن أصدقه ، وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد ، فركع فيه ركعتين ، ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك ، جاءه المخلفون ، فجعلوا يحلفون له ويعتذرون ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وأيمانهم ، ويستغفر لهم ، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى ، حتى جئت فسلمت عليه ، فتبسم تبسم المغضب ، ثم قال لي :

تعاله ، فجئت أمشي ، حتى جلست بين يديه ، فقال لي :

ما خلفك ؟ ألم تكن ابتعت ظهرك ؟

قال : قلت : إني يا رسول الله ، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا ، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ، ولقد أعطيت جدلا ، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كذبا لترضين عني ، وليوشكن الله أن يسخطك علي ، ولئن حدثتك حديثا صدقا تجد علي فيه ، إني لأرجو عقباي من الله فيه ، ولا والله ما كان لي عذر ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما هذا فقد صدقت فيه ، فقم حتى يقضي الله فيك . فقمت ، وثار معي رجال من بني سلمة ، فاتبعوني فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المخلفون ، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك فوالله ما زالوا بي حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأكذب نفسي ، ثم قلت لهم : هل لقى هذا أحد غيري ؟

قالوا : نعم ، رجلان قالا مثل مقالتك ، وقيل لهما مثل ما قيل [ ص: 534 ] لك ؛ قلت : من هما ؟

قالوا : مرارة بن الربيع العمري ، من بني عمرو بن عوف ، وهلال بن ( أبي ) أمية الواقفي ؛ فذكروا لي رجلين صالحين ، فيهما أسوة ، فصمت حين ذكروهما لي ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة ، من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس ، وتغيروا لنا ، حتى تنكرت لي نفسي والأرض ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما صاحباي فاستكانا ، وقعدا في بيوتهما ، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج ، وأشهد الصلوات مع المسلمين ، وأطوف بالأسواق ، ولا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأقول في نفسي ، هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟

ثم أصلي قريبا منه ، فأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، وإذا التفت نحوه أعرض عني ، حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين ، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة . وهو ابن عمي ، وأحب الناس إلي ، فسلمت عليه ، فوالله ما رد علي السلام ، فقلت : يا أبا قتادة ، أنشدك بالله ، هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟

فسكت . فعدت فناشدته ، فسكت عني ، فعدت فناشدته ، فسكت عني ، فعدت فناشدته ، فقال : الله ورسوله أعلم ، ففاضت عيناي ، ووثبت فتسورت الحائط ، ثم غدوت إلى السوق ، فبينا أنا أمشي بالسوق ، إذا نبطي يسأل عني من نبط الشام ، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة ، يقول : من يدل علي كعب بن مالك ؟ قال : فجعل الناس يشيرون له إلي ، حتى جاءني ، فدفع إلي كتابا من ملك غسان ، وكتب كتابا في سرقة من حرير ، فإذا فيه :

أما بعد ، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق [ ص: 535 ] بنا نواسك . قال : قلت حين قرأتها : وهذا من البلاء أيضا ، قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل الشرك . قال : فعمدت بها إلى تنور ، فسجرته بها .

فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله يأتيني ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك ، قال : قلت : أطلقها أم ماذا ، قال : لا ، بل اعتزلها ولا تقربها ، وأرسل إلي صاحبي بمثل ذلك ، فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك ، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاض .

قال : وجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع لا خادم له ، أفتكره أن أخدمه ؟ قال : لا ، ولكن لا يقربنك ؛ قالت : والله يا رسول الله ما به من حركة إلي ، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا ، ولقد تخوفت على بصره .

قال : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله لامرأتك ، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه ؛ قال : فقلت : والله لا استأذنه فيها ، ما أدري ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لي في ذلك إذا استأذنته فيها ، وأنا رجل شاب .

قال : فلبثنا بعد ذلك عشر ليال ، فكمل لنا خمسون ليلة ، من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا ، ثم صليت الصبح ، صبح خمسين ليلة ، على ظهر بيت من بيوتنا ، على الحال التي ذكر الله منا ، قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت ، وضاقت علي نفسي ، وقد كنت ابتنيت خيمة في ظهر سلع ، فكنت أكون فيها إذ سمعت صوت صارخ أوفى على ظهر سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك ، أبشر ، قال : فخررت ساجدا ، وعرفت أن قد جاء الفرج .

التالي السابق


الخدمات العلمية