الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 642 ] ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائتين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      في أواخر المحرم منها خلع جعفر المفوض من العهد ، واستقل بولاية العهد من بعد المعتمد أبو العباس ابن الموفق ، ولقب بالمعتضد ، وجعل إليه السلطنة كما كان أبوه ، وخطب بذلك المعتمد على رءوس الأشهاد ، وكان يوما مشهودا ، ففي ذلك يقول يحيى بن علي يهنئ المعتضد :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ليهنك عقد أنت فيه المقدم حباك به رب بفضلك أعلم     فإن كنت قد أصبحت والي عهدنا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأنت غدا فينا الإمام المعظم     ولا زال من والاك فينا مبلغا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      مناه ومن عاداك يشجى ويندم     وكان عمود الدين فيه تأود
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فعاد بهذا العهد وهو مقوم     وأصبح وجه الملك جذلان ضاحكا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يضيء لنا منه الذي كان يظلم     فدونك فاشدد عقد ما قد حويته
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فإنك دون الناس فيه المحكم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها نودي ببغداد أن لا يمكن أحد من القصاص والطرقية والمنجمين ومن أشبههم من الجلوس في المساجد ولا في الطرقات وأن لا تباع كتب الكلام [ ص: 643 ] والفلسفة والجدل بين الناس ، وذلك بهمة أبي العباس المعتضد سلطان الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة وقعت حروب بين هارون الشاري وبين بني شيبان في أرض الموصل وقد بسط ذلك ابن الأثير في كامله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي رجب منها كانت وفاة المعتمد على الله ليلة الإثنين لتسع عشرة ليلة خلت منه وهذه ترجمته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هو أمير المؤمنين المعتمد على الله ابن المتوكل على الله بن المعتصم بن الرشيد واسمه أحمد بن جعفر بن محمد بن هارون الرشيد بن المهدي محمد بن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس استمرت أيامه في الخلافة ثلاثا وعشرين سنة وستة أيام وكان عمره يوم مات خمسين سنة وستة أشهر وكان أسن من أخيه أبي أحمد الموفق بستة أشهر وتأخر بعده أقل من سنة ولم يكن إليه من الأمر شيء وإنما كان الأمر كله فيما يتعلق بتدبير الخلافة إلى الموفق ، وقد اتفق أن المعتمد طلب في بعض الأيام ثلاثمائة دينار فلم يحصل له ، فقال في ذلك :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أليس من العجائب أن مثلي     يرى ما قل ممتنعا عليه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا     وما من ذاك شيء في يديه [ ص: 644 ]
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إليه تحمل الأموال طرا     ويمنع بعض ما يجبى إليه

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان أول خليفة انتقل من سامرا إلى بغداد بعد ما بنيت سامرا ، ثم لم يعد إليها أحد من الخلفاء ، بل جعلوا دار إقامتهم ببغداد ، وكان سبب هلاكه في ما ذكر ابن الأثير ، أنه شرب تلك الليلة شرابا كثيرا وتعشى عشاء كثيرا ، وكانت وفاته في القصر الحسني من بغداد وحين مات أحضر المعتضد القضاة والأعيان وأشهدهم أنه مات حتف أنفه ، ثم غسل وكفن وصلي عليه ثم حمل فدفن بسامرا ، وفي صبيحة العزاء بويع للمعتضد بالله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خلافة المعتضد بالله

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن أبي أحمد الموفق بن جعفر المتوكل ، وكان من خيار خلفاء بني العباس ورجالهم ، وكانت البيعة له صبيحة موت المعتمد ، وذلك لعشر بقين من رجب من هذه السنة - أعني سنة تسع وسبعين ومائتين - وقد كان أمر الخلافة داثرا فأحياه الله بهمته وعدله وشهامته وصرامته وشجاعته واستوزر عبيد الله بن سليمان بن وهب وولى مولاه بدرا الشرطة في بغداد وجاءته هدايا عمرو بن الليث ، وسأل منه أن يوليه إمرة خراسان فأجابه إلى ذلك وبعث إليه بالخلع واللواء ، فنصبه عمرو بن الليث في داره ثلاثة أيام فرحا وسرورا بذلك ، وعزل رافع بن هرثمة عن إمرة خراسان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ودخلها عمرو بن الليث فلم يزل يتبع رافعا من بلد إلى بلد حتى قتله في سنة ثلاث وثمانين كما سيأتي وبعث برأسه إلى المعتضد وصفت إمرة خراسان لعمرو بن الليث .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 645 ] وفي هذه السنة قدم الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصاص من الديار المصرية بهدايا عظيمة من خمارويه صاحب مصر إلى المعتضد بالله ، فتزوج المعتضد بابنة خمارويه فجهزها أبوها بجهاز لم يسمع بمثله حتى قيل إنه كان من الهواوين الذهب مائة هاون ، فحمل ذلك كله من الديار المصرية إلى بغداد صحبة العروس وكان وقتا مشهودا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة تملك أحمد بن عيسى بن الشيخ قلعة ماردين وكانت قبل ذلك لإسحاق بن كنداج .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها حج بالناس هارون بن محمد العباسي وهي آخر حجة حجها بالناس ، وكان يحج بالناس من سنة أربع وستين ومائتين إلى هذه السنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية