الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                    صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                    ( قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ( 136 ) إن هذا إلا خلق الأولين ( 137 ) وما نحن بمعذبين ( 138 ) فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 139 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 140 ) )

                                                                                                                                                                                                    يقول تعالى مخبرا عن جواب قوم هود له ، بعدما حذرهم وأنذرهم ، ورغبهم ورهبهم ، وبين لهم الحق ووضحه : ( قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ) أي : لا نرجع عما نحن فيه ، ( وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ) [ هود : 53 ] وهكذا الأمر ; فإن الله تعالى قال : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) [ البقرة : 6 ] وقال تعالى : ( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) [ يونس : 96 ، 97 ] .

                                                                                                                                                                                                    وقولهم : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) : قرأ بعضهم : " إن هذا إلا خلق " بفتح الخاء وتسكين [ ص: 154 ] اللام .

                                                                                                                                                                                                    قال ابن مسعود ، والعوفي عن عبد الله بن عباس ، وعلقمة ، ومجاهد : يعنون ما هذا الذي جئتنا به إلا أخلاق الأولين . كما قال المشركون من قريش : ( وقالوا أساطير الأولين [ اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) [ الفرقان : 5 ] ، وقال : ( وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين ) [ الفرقان : 4 ، 5 ] ، وقال ( وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ) ] [ النحل : 24 ] .

                                                                                                                                                                                                    وقرأ آخرون : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) - بضم الخاء واللام - يعنون : دينهم وما هم عليه من الأمر هو دين الأوائل من الآباء والأجداد . ونحن تابعون لهم ، سالكون وراءهم ، نعيش كما عاشوا ، ونموت كما ماتوا ، ولا بعث ولا معاد ; ولهذا قالوا : ( وما نحن بمعذبين ) .

                                                                                                                                                                                                    قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) يقول : دين الأولين . وقاله عكرمة ، وعطاء الخراساني ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، واختاره ابن جرير .

                                                                                                                                                                                                    قال الله تعالى : ( فكذبوه فأهلكناهم ) أي : فاستمروا على تكذيب نبي الله هود ومخالفته وعناده ، فأهلكهم الله ، وقد بين سبب إهلاكه إياهم في غير موضع من القرآن بأنه أرسل عليهم ريحا صرصرا عاتية ، أي : ريحا شديدة الهبوب ذات برد شديد جدا ، فكان إهلاكهم من جنسهم ، فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره ، فسلط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة ، كما قال : ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ) [ ذات العماد ] ) [ الفجر : 6 ، 7 ] وهم عاد الأولى ، كما قال : ( وأنه أهلك عادا الأولى ) [ النجم : 50 ] ، وهم من نسل إرم بن سام بن نوح . ( ذات العماد ) أي : الذين كانوا يسكنون العمد . ومن زعم أن " إرم " مدينة ، فإنما أخذ ذلك من الإسرائيليات من كلام كعب ووهب ، وليس لذلك أصل أصيل . ولهذا قال : ( التي لم يخلق مثلها في البلاد ) [ الفجر : 8 ] ، أي : لم يخلق مثل هذه القبيلة في قوتهم وشدتهم وجبروتهم ، ولو كان المراد بذلك مدينة لقال : التي لم يبن مثلها في البلاد ، وقال : ( فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون ) [ فصلت : 15 ] .

                                                                                                                                                                                                    وقد قدمنا أن الله تعالى لم يرسل عليهم من الريح إلا بمقدار أنف الثور ، عتت على الخزنة ، فأذن الله لها في ذلك ، وسلكت وحصبت بلادهم ، فحصبت كل شيء لهم ، كما قال تعالى : ( تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ) الآية [ الأحقاف : 25 ] ، وقال تعالى : ( وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ) [ الحاقة : 6 ، 7 ] ، أي : كاملة ( فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ) [ الحاقة : 7 ] ، أي : بقوا أبدانا بلا رؤوس ; [ ص: 155 ] وذلك أن الريح كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه وترفعه في الهواء ، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخ دماغه ، وتكسر رأسه ، وتلقيه ، كأنهم أعجاز نخل منقعر . وقد كانوا تحصنوا في الجبال والكهوف والمغارات ، وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم ، فلم يغن عنهم ذلك من أمر الله شيئا ، ( إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ) [ نوح : 4 ] ; ولهذا قال : ( فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين . وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) .

                                                                                                                                                                                                    التالي السابق


                                                                                                                                                                                                    الخدمات العلمية