الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 361 ]

                ثم الواحد بالجنس أو النوع . . يجوز أن يكون موردا للأمر والنهي باعتبار أنواعه وأشخاصه ، كالأمر بالزكاة ، وصلاة الضحى مثلا ، والنهي عن الصلاة في وقت النهي .

                أما الواحد بالشخص ، فيمتنع كونه موردا لهما ، من جهة . أما من جهتين ، كالصلاة في الدار المغصوبة ، فلا تصح في أشهر القولين لنا ، خلافا للأكثرين .

                وقيل : يسقط الفرض عندها لا بها . ومأخذ الخلاف ، أن النظر إلى هذه الصلاة المعينة أو إلى جنس الصلاة .

                التالي السابق


                قوله : " ثم الواحد بالجنس أو النوع ، يجوز أن يكون موردا للأمر والنهي باعتبار أنواعه وأشخاصه " إلى آخره .

                اعلم : أن الأشياء بالنظر إلى كليتها وجزئيتها وعمومها وخصوصها مراتب ، أعلاها الجنس ، ثم النوع ، ثم الشخص . كقولنا : الحيوان ، الإنسان ، زيد ، فالحيوان جنس بالإضافة إلى الإنسان ، والإنسان نوع له ، وزيد شخص من النوع ، وكقولنا : العبادة ، الزكاة والصلاة ، هذه الصلاة ، فالعبادة جنس ، والزكاة والصلاة نوع ، وهذه الصلاة شخص .

                ومعنى قولنا : الواحد بالجنس أو النوع أنه لفظ واحد ، ومسمى واحد ، دل على جنس كالحيوان ، أو دل على نوع كالإنسان . [ ص: 362 ]

                إذا عرفت هذا ، فالواحد بالجنس يجوز أن يكون موردا للأمر والنهي ، أي : يرد عليه الأمر والنهي ويتوجهان إليه باعتبار أنواعه ، أي يتوجه الأمر إلى بعض أنواعه والنهي إلى بعض آخر منها .

                وكذلك الواحد بالنوع يجوز توجه الأمر إليه باعتبار أشخاصه أي : الأمر إلى بعض الأشخاص ، والنهي إلى بعض آخر ، كالأمر بالزكاة التي هي نوع لجنس العبادة ، والأمر بصلاة الضحى التي هي باعتبار إطلاق نوع أو صنف للصلاة ، وباعتبار تقييدها بيوم بعينه شخص من أشخاص نوع الصلاة ، وكالنهي عن الصلاة في وقت النهي ، فقد توجه الأمر إلى الزكاة وصلاة الضحى من حيث هما نوعان للعبادة ، وتوجه النهي إلى صلاة الضحى والصلاة في وقت النهي من حيث هما شخصان لنوع العبادة وهو الصلاة .

                وهذا المثال إن لاح في صحته أو مطابقته شيء ، فأنت قد عرفت القاعدة ، وهي صحة توجه الأمر والنهي إلى الجنس باعتبار تعدد أنواعه وإلى النوع باعتبار تعدد أشخاصه .

                قوله : " أما الواحد بالشخص " إلى آخره أي : اللفظ والمسمى الواحد إذا كان مفهومه شخصا معينا " فيمتنع كونه موردا لهما " أي : للأمر والنهي ، أي : يمتنع توجههما إليه وورودهما عليه " من جهة واحدة " لأنه تناقض ، كما لو قال : صل هذه الظهر ، لا تصل هذه الظهر ، أعتق هذا العبد ، لا تعتق هذا العبد .

                قوله : " أما من جهتين " أي : أما كون الواحد بالشخص موردا للأمر والنهي من جهتين " كالصلاة في الدار المغصوبة " من عمرو ، " فلا تصح في أشهر القولين " عن [ ص: 363 ] أحمد وجماعة معه ، على ما حكاه الآمدي " خلافا للأكثرين " في صحة ذلك .

                " وقيل : يسقط الفرض عندها " أي : عند الصلاة في الدار المغصوبة " لا بها " ، وهذا قول القاضي أبي بكر ، لأنه لما قام الدليل عنده على عدم الصحة بما سنقرر إن شاء الله تعالى . ثم ألزمه الخصم إجماع السلف على أنهم لم يأمروا الظلمة بإعادة الصلوات ، مع كثرة وقوعها منهم في أماكن الغصب ، فأشكل الأمر عليه ، فحاول الخلاص بهذا التوسط ، فقال : يسقط الفرض عند هذه الصلاة للإجماع المذكور لا بها ، لقيام الدليل على عدم صحتها .

                قلت : وكأنه جعلها سببا لسقوط الفرض ، أو أمارة عليه على نحو من خطاب الوضع لا علة لسقوطه ، لأن ذلك يستدعي صحتها .

                قلت : وهذا مسلك ظاهر الضعف ، لأن سقوط الفرض بدون أدائه شرعا غير معهود ، بل لو منع الإجماع المذكور لكان أيسر عليه ، فإنه يبعد على الخصم أن يثبت أن ظالما في زمن السلف صلى في مكان مغصوب وعلم به أهل الإجماع ، فضلا عن أن يثبت ذلك في جميع الظلمة أو أكثرهم ، ولو سلم ذلك ، لكن لا نسلم أنهم أقروا الظلمة على ذلك ولم يأمروهم بالإعادة ، ولا يلزم من عدم نقل ذلك عدم وجوده ، لجواز أن الأمر بالإعادة وجد ولم ينقل ، لاستيلاء الظلمة وسطوتهم ، أو كون الحكم ليس من الأمور العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقل الإنكار فيه ، وأحسب أن هؤلاء الذين ادعوا الإجماع المذكور بنوه على مقدمتين :

                إحداهما : أن مع كثرة الظلمة في تلك الأعصار عادة لا يخلو من إيقاع صلاة في مكان غصب من بعضهم .

                الثانية : أن السلف يمتنع عادة وشرعا تواطؤهم على ترك الإنكار والأمر [ ص: 364 ] بالإعادة ، بناء من هؤلاء على ما ظنوه من دليل البطلان ، وإلا فلا إجماع في ذلك منقول ، تواترا ولا آحادا ، والمقدمتان المذكورتان في غاية الضعف والوهاء .

                قوله : " ومأخذ الخلاف " إلى آخره ، أي : مأخذ الخلاف في بطلان هذه الصلاة وصحتها هو " أن النظر إلى هذه الصلاة المعينة " الواقعة في هذا الموضع المغصوب ، " أو إلى جنس الصلاة " مع قطع النظر عن مكان إيقاعها ، إن نظرنا إلى عين هذه الصلاة اتجه القول بالبطلان ، لأن نفس هذه الصلاة حرام معصية وهو باطل ، وإن نظرنا إلى جنس الصلاة اتجه القول بالصحة من جهة كونها مطلوبة للشارع باعتبار الجهتين .

                وسيأتي الدليل على ذلك إن شاء الله تعالى .




                الخدمات العلمية