الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم وقال مطرف عن الشعبي في رجلين شهدا على رجل أنه سرق فقطعه علي ثم جاءا بآخر وقالا أخطأنا فأبطل شهادتهما وأخذا بدية الأول وقال لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما وقال لي ابن بشار حدثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن غلاما قتل غيلة فقال عمر لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم وقال مغيرة بن حكيم عن أبيه إن أربعة قتلوا صبيا فقال عمر مثله وأقاد أبو بكر وابن الزبير وعلي وسويد بن مقرن من لطمة وأقاد عمر من ضربة بالدرة وأقاد علي من ثلاثة أسواط واقتص شريح من سوط وخموش

                                                                                                                                                                                                        6501 حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثنا موسى بن أبي عائشة عن عبيد الله بن عبد الله قال قالت عائشة لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه وجعل يشير إلينا لا تلدوني قال فقلنا كراهية المريض بالدواء فلما أفاق قال ألم أنهكم أن تلدوني قال قلنا كراهية للدواء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبقى منكم أحد إلا لد وأنا أنظر إلاالعباس فإنه لم يشهدكم

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب ) كذا للأكثر ، وفي رواية " يعاقبون " بصيغة الجمع ، وفي أخرى بحذف النون وهي لغة ضعيفة . وقوله : " أو يقتص منهم كلهم " أي إذا قتل أو جرح جماعة شخصا واحدا هل يجب القصاص على الجميع أو يتعين واحدا ليقتص منه ويؤخذ من الباقين الدية ، فالمراد بالمعاقبة هنا المكافأة ، وكأن المصنف أشار إلى قول ابن سيرين فيمن قتله اثنان يقتل أحدهما ويؤخذ من الآخر [ ص: 237 ] الدية ، فإن كانوا أكثر وزعت عليهم بقية الدية كما لو قتله عشرة فقتل واحد أخذ من التسعة تسع الدية ، وعنالشعبي : يقتل الولي من شاء منهما أو منهم إن كانوا أكثر من واحد ويعفو عمن بقي ، وعن بعض السلف يسقط القود ويتعين الدية ؛ حكي عن ربيعة وأهل الظاهر .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن بطال : جاء عن معاوية وابن الزبير والزهري مثل قول ابن سيرين وحجة الجمهور أن النفس لا تتبعض فلا يكون زهوقها بفعل بعض دون بعض وكان كل منهم قاتلا ، ومثله لو اشتركوا في رفع حجر على رجل فقتله كان كل واحد منهم رفع ، بخلاف ما لو اشتركوا في أكل رغيف فإن الرغيف يتبعض حسا ومعنى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال مطرف عن الشعبي في رجلين شهدا على رجل إلخ ) وصله الشافعي عن سفيان بن عيينة عن مطرف بن طريف عن الشعبي " أن رجلين أتيا عليا فشهدا على رجل أنه سرق فقطع يده ، ثم أتياه بآخر فقالا : هذا الذي سرق وأخطأنا على الأول ، فلم يجز شهادتهما على الآخر وأغرمهما دية الأول وقال : لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما " .

                                                                                                                                                                                                        لم أقف على الشاهدين ولا على اسم المشهود عليهما ، وعرف بقوله : " ولم يجز شهادتيهما على الآخر " المراد بقوله في رواية البخاري " فأبطل شهادتهما " ففيه تعقب على من حمل الإبطال على شهادتهما معا الأولى لإقرارهما فيها بالخطإ والثانية لكونهما صارا متهمين ، ووجه التعقب أن اللفظ وإن كان محتملا لكن الرواية الأخرى عينت أحد الاحتمالين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال لي ابن بشار ) هو محمد المعروف ببندار ويحيى هو القطان وعبيد الله هو ابن عمر العمري .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أن غلاما قتله غيلة ) بكسر الغين المعجمة أي سرا ( فقال عمر لو اشترك فيها ) في رواية الكشميهني " فيه " وهو أوجه ، والتأنيث على إرادة النفس ، وهذا الأثر موصول إلى عمر بأصح إسناد ، وقد أخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير عن يحيى القطان من وجه آخر عن نافع ولفظه : " أن عمر قتل سبعة من أهل صنعاء برجل إلخ " .

                                                                                                                                                                                                        وأخرجه الموطأ بسند آخر قال : " عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر قتل خمسة أو ستة برجل قتلوه غيلة وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا " ، ورواية نافع أوصل وأوضح ، وقوله تمالأ بهمزة مفتوحة بعد اللام ومعناه توافق ، والأثر مع ذلك مختصر من الذي بعده .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال مغيرة بن حكيم عن أبيه إلخ ) هو مختصر من الأثر الذي وصله ابن وهب ومن طريقه قاسم بن أصبغ والطحاوي والبيهقي ، قال ابن وهب : حدثني جرير بن حازم أن المغيرة بن حكيم الصنعاني حدثه عن أبيه أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها ، وترك في حجرها ابنا له من غيرها غلاما يقال له أصيل ، فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلا فقالت له : إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله ، فأبى ، فامتنعت منه ، فطاوعها ، فاجتمع على قتل الغلام الرجل ورجل آخر والمرأة وخادمها فقتلوه ، ثم قطعوه أعضاء وجعلوه في عيبة - بفتح المهملة وسكون التحتانية ثم موحدة مفتوحة هي وعاء من أدم - فطرحوه في ركية - بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد التحتانية ، هي البئر التي لم تطو - في ناحية القرية ليس فيها ماء ، فذكر القصة وفيه : " فأخذ خليلها فاعترف ثم اعترف الباقون ، فكتب يعلى وهو يومئذ أمير بشأنهم إلى عمر فكتب إليه عمر بقتلهم جميعا وقال : والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين " .

                                                                                                                                                                                                        وأخرجه أبو الشيخ في " كتاب الترهيب " من وجه آخر عن جرير بن حازم وفيه : " فكتب يعلى بن أمية عامل عمر على اليمن إلى عمر فكتب إليه نحوه " .

                                                                                                                                                                                                        وفي أثر ابن عمر هذا تعقب على ابن عبد البر في قوله لم يقل فيه أنه قتل غيلة إلا مالك وروينا نحو هذه القصة من وجه [ ص: 238 ] آخر عند الدارقطني ، وفي فوائد أبي الحسن بن زنجويه بسند جيد إلى أبي المهاجر عبد الله بن عميرة من بني قيس بن ثعلبة قال : " كان رجل يسابق الناس كل سنة بأيام ، فلما قدم وجد مع وليدته سبعة رجال يشربون فأخذوه فقتلوه " فذكر القصة في اعترافهم وكتاب الأمير إلى عمر وفي جوابه أن " اضرب أعناقهم واقتلها معهم فلو أن أهل صنعاء اشتركوا في دمه لقتلتهم " ، وهذه القصة غير الأولى وسنده جيد ، فقد تكرر ذلك من عمر ، ولم أقف على اسم واحد ممن ذكر فيها إلا على اسم الغلام في رواية ابن وهب ، وحكيم والد المغيرة صنعاني لا أعرف حاله ولا اسم والده وقد ذكره ابن حبان في ثقات التابعين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وأقاد أبو بكر وابن الزبير وعلي وسويد بن مقرن من لطمة ، وأقاد عمر من ضربة بالدرة ، وأقاد علي من ثلاثة أسواط ، واقتص شريح من سوط وخموش ) أما أثر أبي بكر وهو الصديق فوصله ابن أبي شيبة من طريق يحيى بن الحصين : سمعت طارق بن شهاب يقول " لطم أبو بكر يوما رجلا لطمة فقيل ما رأينا كاليوم قط هنعة ولطمة ، فقال أبو بكر : إن هذا أتاني ليستحملني فحملته فإذا هو يتبعهم ، فحلفت أن لا أحمله ثلاث مرات ، ثم قال له : اقتص ، فعفا الرجل " .

                                                                                                                                                                                                        وأما أثر ابن الزبير فوصله ابن أبي شيبة ومسدد جميعا عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار " أن ابن الزبير أقاد من لطمة " ، وأما أثر علي الأول فأخرجه ابن أبي شيبة من طريق ناجية أبي الحسن عن أبيه " أن عليا أتي في رجل لطم رجلا فقال للملطوم اقتص " .

                                                                                                                                                                                                        وأما أثر سويد بن مقرن فوصله ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه ، وأما أثر عمر فأخرجه في الموطإ عن عاصم بن عبيد الله عن عمر منقطعا ، ووصله عبد الرزاق عن مالك عن عاصم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : " كنت مع عمر بطريق مكة فبال تحت شجرة ، فناداه رجل فضربه بالدرة فقال : عجلت علي ، فأعطاه المخفقة وقال : اقتص ، فأبى ، فقال لتفعلن ، قال : فإني أغفرها " .

                                                                                                                                                                                                        وأما أثر علي الثاني فأخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور من طريق فضيل بن عمرو عن عبد الله بن معقل بكسر القاف قال : " كنت عند علي فجاءه رجل فساره فقال : يا قنبر اخرج فاجلد هذا ، فجاء المجلود فقال : إنه زاد علي ثلاثة أسواط فقال صدق قال : خذ السوط فاجلده ثلاثة أسواط ثم قال : يا قنبر إذا جلدت فلا تتعد الحدود " .

                                                                                                                                                                                                        وأما أثر شريح فوصله ابن سعد وسعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي قال : " جاء رجل إلى شريح فقال : أقدني من جلوازك ، فسأله فقال : ازدحموا عليك فضربته سوطا فأقاده منه " .

                                                                                                                                                                                                        ومن طريق ابن سيرين قال : اختصم إليه يعني شريحا - عبد جرح حرا فقال : إن شاء اقتص منه .

                                                                                                                                                                                                        وأخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي إسحاق عن شريح أنه أقاد من لطمة .

                                                                                                                                                                                                        ومن وجه آخر عن أبي إسحاق عن شريح أنه أقاد من لطمة وخموش ، والخموش بضم المعجمة الخدوش وزنه ومعناه ، والخماشة ما ليس له أرش معلوم من الجراحة .

                                                                                                                                                                                                        والجلواز بكسر الجيم وسكون اللام وآخره زاي هو الشرطي ، سمي بذلك لأن من شأنه حمل الجلاز بكسر الجيم وباللام الخفيفة وهو السير الذي يشد في السوط ، وعادة الشرطي أن يربطه في وسطه .

                                                                                                                                                                                                        قال ابن بطال : جاء عن عثمان وخالد بن الوليد نحو قول أبي بكر ، وهو قول الشعبي وطائفة من أهل الحديث .

                                                                                                                                                                                                        وقال الليث وابن القاسم : يقاد من الضرب بالسوط وغيره إلا اللطمة في العين ففيها العقوبة خشية على العين .

                                                                                                                                                                                                        والمشهور عن مالك وهو قول الأكثر : لا قود في اللطمة إلا إن جرحت ففيها حكومة ، والسبب فيه تعذر المماثلة لافتراق لطمتي القوي والضعيف فيجب التعزير بما يليق باللاطم .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن القيم : بالغ بعض المتأخرين فنقل الإجماع على عدم القود في اللطمة والضربة وإنما يجب التعزير ، وذهل في ذلك ، فإن القول بجريان القود في ذلك ثابت عن الخلفاء الراشدين ، فهو أولى بأن يكون إجماعا ، وهو مقتضى [ ص: 239 ] إطلاق الكتاب والسنة .

                                                                                                                                                                                                        ثم ذكر المصنف حديث عائشة في اللدود ، وقد مضى القول فيه في " باب القصاص بين الرجال والنساء " وأنه ليس بظاهر في القصاص ، لكن قوله في آخره إلا العباس فإنه لم يشهدكم فقد تمسك به من قال إنه فعله قصاصا لا تأديبا .

                                                                                                                                                                                                        قال ابن بطال : هو حجة لمن قال : يقاد من اللطمة والسوط ، يعني ومناسبة ذكر ذلك في ترجمة القصاص من الجماعة للواحد ليست ظاهرة . وأجاب ابن المنير بأن ذلك مستفاد من إجراء القصاص في الأمور الحقيرة ولا يعدل فيها عن القصاص إلى التأديب ، فكذا ينبغي أن يجري القصاص على المشتركين في الجناية سواء قلوا أم كثروا فإن نصيب كل منهم عظيم معدود من الكبائر فكيف لا يجري فيه القصاص ، والعلم عند الله تعالى .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية