الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( والعزيمة لغة : القصد المؤكد ) قال في القاموس : عزم على الأمر يعزم عزما - ويضم - ومعزما وعزمانا - بالضم - وعزيما وعزيمة وعزمه واعتزمه ، وعليه ، وتعزم أراد فعله ، وقطع عليه أو جد في الأمر ، وعزم الأمر نفسه عزم عليه ، وعلى الرجل : أقسم ، والراقي قرأ العزائم ، أي الرقى . وهي آيات من القرآن تقرأ على ذوي الآفات رجاء البرء ، وأولو العزم من الرسل : الذين عزموا على أمر الله فيما عهد إليهم . وهم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين ( و ) العزيمة ( شرعا ) أي في عرف [ ص: 150 ] أهل الشرع ( حكم ثابت بدليل شرعي خال عن معارض راجح . فشمل ) الأحكام ( الخمسة ) لأن كل واحد منها حكم ثابت بدليل شرعي . فيكون في الحرام والمكروه على معنى الترك . فيعود المعنى في ترك الحرام إلى الوجوب ، وقوله : بدليل شرعي ، احتراز عن الثابت بدليل عقلي ، فإن ذلك لا يستعمل فيه العزيمة والرخصة .

وقوله : خال عن معارض . احتراز عما يثبت بدليل لكن لذلك الدليل معارض ، مساو أو راجح ; لأنه إن كان المعارض مساويا لزم الوقف وانتفت العزيمة . ووجب طلب المرجح الخارجي ، وإن كان راجحا ، لزم العمل بمقتضاه وانتفت العزيمة ، وثبتت الرخصة كتحريم الميتة عند عدم المخمصة فالتحريم فيها عزيمة ، لأنه حكم ثابت بدليل شرعي خال عن معارض . فإذا وجدت المخمصة حصل المعارض لدليل التحريم ، وهو راجح عليه ، حفظا للنفس ، فجاز الأكل وحصلت الرخصة ( والرخصة لغة : السهولة ) قال في المصباح : يقال : رخص الشارع لنا في كذا ترخيصا . وأرخص إرخاصا : إذا يسره وسهله ، وفلان يترخص في الأمر إذا لم يستقص ، وقضيب رخص أي طري لين ، ورخص البدن - بالضم - رخاصة ورخوصة : إذا نعم ولان ملمسه ، فهو رخيص ( و ) الرخصة ( شرعا : ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح ) فقوله : ما ثبت على خلاف دليل شرعي . احتراز عما ثبت على وفق الدليل . فإنه لا يكون رخصة ، بل عزيمة . كالصوم في الحضر . وقوله : لمعارض راجح . احتراز عما كان لمعارض غير راجح ، بل إما مساو ، فيلزم الوقف على حصول المرجح ، أو قاصر عن مساواة الدليل الشرعي ، فلا يؤثر ، وتبقى العزيمة بحالها . وهذا الذي في المتن ذكره الطوفي في مختصره .

وقال الطوفي في شرح مختصره : فلو قبل استباحة المحظور شرعا مع قيام السبب الحاظر . صح وساوى الأول وقال العسقلاني في شرح مختصر الطوفي : أجود ما يقال في الرخصة : ثبوت حكم لحالة تقتضيه مخالفة مقتضي دليل يعمها . وهذا الحد لابن حمدان في المقنع ( ومنها ) أي من الرخصة ( واجب ) كأكل الميتة للمضطر . فإنه واجب على الصحيح الذي عليه [ ص: 151 ] الأكثر ; لأنه سبب لإحياء النفس ، وما كان كذلك فهو واجب ، وذلك : لأن النفوس حق لله تعالى ، وهي أمانة عند المكلفين ، فيجب حفظها ليستوفي الله سبحانه وتعالى حقه منها بالعبادات والتكاليف . وقد قال الله سبحانه وتعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وقال تعالى " { ولا تقتلوا أنفسكم } ( و ) منها ( مندوب ) كقصر المسافر الصلاة إذا اجتمعت الشروط ، وانتفت الموانع ( و ) منها ( مباح ) كالجمع بين الصلاتين في غير عرفة ومزدلفة . وكذا من أكره على كلمة الكفر .

وكذا بيع العرايا للحديث في ذلك . وفهم مما تقدم : أن الرخصة لا تكون محرمة ولا مكروهة ، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم { إن الله يحب أن تؤتى رخصه } وعلم مما تقدم أن ما خفف عنا من التغليظ الذي على الأمم قبلنا ليس برخصة شرعية ، لكن قد يسمى رخصة مجازا ، بمعنى أنه سهل علينا ما شدد عليهم ، رفقا من الله تعالى ورحمة بنا مع جواز إيجابه علينا ، كما أوجبه عليهم ، لا على معنى أنا استبحنا شيئا من المحرم عليهم مع قيام المحرم في حقنا ، لأنه إنما حرم عليهم لا علينا . فهذا وجه التجوز ، وعدم كون الأول ليس برخصة ، لأنه لم يقم على المنع من ذلك دليل ( والاثنتان ) أي العزيمة والرخصة ( وصفان للحكم ) لا للفعل فتكون العزيمة بمعنى التأكيد في طلب الشيء ، وتكون الرخصة بمعنى الترخيص .

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم { فاقبلوا رخصة الله } ومنه قول أم عطية { نهينا عن اتباع الجنائز . ولم يعزم علينا } وقيل : هما وصفان للفعل . ثم اختلف القائلون بأنهما وصف للحكم . فقال جمع : هما وصفان للحكم ( الوضعي ) أي فيكونان من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف منهم . الآمدي . وقطع به ابن حمدان في مقنعه . وقال جمع : للحكم التكليفي لما فيهما من معنى الاقتضاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية