الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 576 ] ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها أخذ الرشيد البيعة بولاية العهد من بعده لولده محمد ابن زبيدة ، وسماه الأمين ، وعمره إذ ذاك خمس سنين ، فقال في ذلك سلم الخاسر :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قد وفق الله الخليفة إذ بنى بيت الخلافة للهجان الأزهر     فهو الخليفة عن أبيه وجده
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      شهدا عليه بمنظر وبمخبر     قد بايع الثقلان في مهد الهدى
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لمحمد ابن زبيدة ابنة جعفر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان الرشيد يتوسم النجابة والرجاحة في عبد الله المأمون ، ويقول : والله إن فيه حزم المنصور ، ونسك المهدي ، وعزة نفس الهادي ، ولو شئت أن أقول الرابعة مني لقلت ، وإني لأقدم محمدا ابن زبيدة عليه وإني لأعلم أنه متبع هواه ، ولكن لا أستطيع غير ذلك . ثم أنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لقد بان وجه الرأي لي غير أنني     غلبت على الأمر الذي كان أحزما
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكيف يرد الدر في الضرع بعدما     توزع حتى صار نهبا مقسما
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أخاف التواء الأمر بعد استوائه     وأن ينقض الأمر الذي كان أبرما

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وغزا الصائفة عبد الملك بن صالح ، في قول الواقدي . وحج بالناس أمير المؤمنين الرشيد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 577 ] وفيها سار يحيى بن عبد الله بن حسن إلى الديلم ، وتحرك هنالك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي فيها من الأعيان :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      شعوانة العابدة الزاهدة ، كانت أمة سوداء ، كثيرة العبادة ، روي عنها كلمات حسان ، وقد سألها الفضيل بن عياض الدعاء ، فقالت : أما بينك وبينه ما إن دعوته استجاب لك؟ فشهق الفضيل ، ووقع مغشيا عليه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم ، قال ابن خلكان : كان مولى قيس بن رفاعة ، وهو مولى عبد الرحمن بن مسافر الفهمي ، إمام أهل الديار المصرية ، ولد بقرقشندة من بلاد مصر سنة أربع وتسعين . وكانت وفاته في شعبان من هذه السنة ، ونشأ بالديار المصرية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن خلكان : أصله من قلقلشندة ، وضبطه بلامين ، الثانية متحركة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 578 ] وحكى عن بعضهم أنه كان حنفي المذهب ، وأنه ولي القضاء بمصر ، وأنه ولد في سنة أربع وعشرين ومائة ، وذلك غريب جدا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر أنه كان يدخل له من ملكه في كل سنة خمسة آلاف دينار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال غيره : كان يدخل له من الغلة في كل سنة ثمانون ألف دينار ، وما وجبت عليه زكاة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان إماما في الفقه والحديث والعربية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الشافعي : كان الليث أفقه من مالك إلا أنه ضيعه أصحابه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وبعث إليه مالك يستهديه شيئا من العصفر لأجل جهاز ابنته ، فبعث إليه ثلاثين حملا ، فاستعمل منه مالك حاجته ، وباع منه بخمسمائة دينار ، وبقي عنده بقية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحج مرة فأهدى له مالك طبقا فيه رطب ، فرد الطبق وفيه ألف دينار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان يهب الرجل من أصحابه من العلماء والعباد الألف دينار وما يقارب ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان يخرج إلى الإسكندرية في البحر هو وأصحابه في مركب ، ومطبخه [ ص: 579 ] في مركب . ومناقبه كثيرة جدا ، وقد ذكرناه في " التكميل " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحكى ابن خلكان أنه سمع قائل يقول يوم مات الليث :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذهب الليث فلا ليث لكم     ومضى العلم غريبا وقبر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فالتفتوا فلم يروا أحدا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      المنذر بن عبد الله بن المنذر القرشي ، عرض عليه المهدي أن يلي القضاء ويعطيه من بيت المال مائة ألف درهم ، فقال : إني كنت عاهدت الله أن لا ألي شيئا ، وأعيذ أمير المؤمنين بالله أن أخيس بعهدي . فقال له المهدي : آلله؟ قال : آلله . قال : انطلق فقد أعفيتك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية