الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 444 ] 198

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة

ذكر استيلاء طاهر على بغداذ

في هذه السنة لحق خزيمة بن خازم بطاهر ، وفارق الأمين ، ودخل هرثمة إلى الجانب الشرقي .

وكان سبب ذلك أن طاهرا أرسل إلى خزيمة أن انفصل الأمر بيني وبين محمد ، ولم يكن لك [ أثر ] في نصرتي ، ألا أقصر في أمرك ! فأجابه بالطاعة وقال له : لو كنت أنت النازل الجانب الشرقي في مكان هرثمة لحمل نفسه إليه . وأخبره قلة ثقته بهرثمة ، إلا أن يضمن له القيام دونه لخوفه من العامة . فكتب طاهر إلى هرثمة يعجزه ويلومه ، ويقول : جمعت الأجناد ، وأتلفت الأموال ، وقد وقفت وقوف المحجم عمن بإزائك ، فاستعد للدخول إليهم ، فقد أحكمت الأمر على دفع العسكر ، وقطع الجسور ، وأرجو أن لا يختلف عليك اثنان .

فأجابه هرثمة بالسمع والطاعة ، فكتب طاهر إلى خزيمة بذلك ، وكتب إلى محمد بن علي بن عيسى بن ماهان بمثل ذلك ، فلما كان ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرم ، وثب خزيمة ومحمد بن علي بن عيسى على جسر دجلة فقطعاه ، وخلعا محمدا الأمين ، وسكن أهل عسكر المهدي ، ولم يدخل هرثمة حتى مضى إليه نفر من القواد وحلفوا له أنه لا يرى منهم مكروها ، فدخل إليهم ، فقال الحسين الخليع في ذلك :

علينا جميعا من خزيمة منة بها أخمد الرحمن نائرة الحرب     تولى أمور المسلمين بنفسه
فذب وحامى عنهم أشرف الذب     ولولا أبو العباس ما انفك دهرنا
يبيت على عتب ويغدو على عتب [ ص: 445 ]     خزيمة لم يذكر له مثل هذه
إذ اضطربت شرق البلاد مع الغرب     أناخ بجسري دجلة القطع والقنا
شوارع والأرواح في راحة العضب

وهي عدة أبيات .

فلما كان الغد تقدم طاهر إلى المدينة والكرخ ، فقاتل هناك قتالا شديدا ، فهزم الناس حتى ألحقهم بالكرخ ، وقاتلهم فيه فهزمهم ، فمروا لا يلوون على شيء ، فدخلها طاهر بالسيف ، وأمر مناديه فنادى : من لزم بيته فهو آمن ، ووضع بسوق الكرخ وقصر الوضاح جندا على قدر حاجته ، وقصد إلى مدينة المنصور وأحاط بها ، وبقصر زبيدة ، وقصر الخلد من باب الجسر إلى باب خراسان ، وباب الشام ، وباب الكوفة ، وباب البصرة ، وشاطئ الصراة إلى مصبها في دجلة .

وثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش ، والأفارقة ، فنصب المجانيق بإزاء قصر زبيدة ، وقصر الخلد ، وأخذ الأمين أمه وأولاده إلى مدينة المنصور ، وتفرق عنه عامة جنده وخصيانه وجواريه في الطريق ، لا يلوي أحد على أحد ، وتفرق السفلة والغوغاء ، وتحصن محمد بمدينة المنصور ، وحصره طاهر وأخذ عليه الأبواب .

وبلغ خبر هذه الوقعة عمر الوراق ، فقال لمخبره : ناولني قدحا . ثم تمثل :

خذها فللخمرة أسماء لها دواء     ولها داء يصلحها الماء
إذا أصفقت يوما وقد يفسدها الماء     وقائل كانت لهم وقعة في يومنا هذا وأشياء
قلت له : أنت امرؤ جاهل     فيك عن الخيرات إبطاء
اشرب ودعنا من أحاديثهم     يصطلح الناس إذا شاءوا



[ ص: 446 ] وحكى إبراهيم بن المهدي أنه كان مع الأمين لما حصره طاهر ، قال : فخرج الأمين ذات ليلة يريد أن يتفرج من الضيق الذي هو فيه ، فصار إلى قصر له بناحية الخلد ، ثم أرسل إلي فحضرت عنده ، فقال : ترى طيب هذه الليلة ، وحسن القمر في السماء ، وضوءه في الماء على شاطئ دجلة ، فهل لك في الشرب ؟ فقلت : شأنك . فشرب رطلا ، وسقاني آخر ، ثم غنيته ما كنت أعلم أنه يحبه ، فقال لي : ما تقول فيمن يضرب عليك ؟ فقلت : ما أحوجني إليه ! فدعا بجارية متقدمة عنده ، اسمها ضعف ، فتطيرت من اسمها ونحن في تلك الحال ، فقال لها : غني . فغنت بشعر الجعدي :

كليب لعمري كان أكثر ناصرا     وأيسر جرما منك ضرج بالدم


فاشتد ذلك عليه وتطير منه ، وقال : غني غير ذلك . فغنت :

أبكى فراقهم عيني فأرقها     إن التفرق للأحباب بكاء
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم     حتى تفانوا وريب الدهر عداء



فقال لها : لعنك الله ! أما تعرفين من الغناء غير هذا ؟ فقالت : ما تغنيت إلا بما ظننت أنك تحبه ! ثم غنت آخر :

أما ورب السكون والحرك     إن المنايا كثيرة الشرك
ما اختلف الليل والنهار ولا     دارت نجوم السماء في الفلك
إلا لنقل النعيم من ملك     قد زال سلطانه إلى ملك
[ ص: 447 ] وملك ذي العرش دائم أبدا     ليس بفان ولا بمشترك


فقال لها : قومي ، غضب الله عليك ولعنك ! [ قال ] : فقامت ، وكان له قدح من بلور ، حسن الصنعة ، كان يسميه " زب رياح " ، وكان موضوعا بين يديه ، فعثرت الجارية به فكسرته ، فقال : ويحك يا إبراهيم ! ما ترى ما جاءت به هذه الجارية ، ثم ما كان من كسر القدح ؟ والله ما أظن أمري إلا وقد قرب ! فقلت : يديم الله ملكك ، ويعز سلطانك ، ويكبت عدوك ! فما استتم الكلام حتى سمعنا صوتا : قضي الأمر الذي فيه تستفتيان . فقال : يا إبراهيم ! أما سمعت ما سمعت ؟ قلت : ما سمعت شيئا - وكنت قد سمعت - . قال : تسمع حسا . فدنوت من الشط ، فلم أر شيئا ، ثم عاودنا الحديث ، فعاد الصوت بمثله ، فقام من مجلسه مغتما إلى مجلسه بالمدينة ، فما مضى إلا ليلة أو ليلتان حتى قتل .

التالي السابق


الخدمات العلمية