الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب إفشاء السلام

                                                                                                                                                                                                        5881 حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن الشيباني عن أشعث بن أبي الشعثاء عن معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع بعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس ونصر الضعيف وعون المظلوم وإفشاء السلام وإبرار المقسم ونهى عن الشرب في الفضة ونهانا عن تختم الذهب وعن ركوب المياثر وعن لبس الحرير والديباج والقسي والإستبرق

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        9311 [ ص: 18 ] قوله باب يسلم الصغير على الكبير ) ، وقال إبراهيم : هو ابن طهمان وثبت كذلك في رواية أبي ذر . وقد وصله البخاري في " الأدب المفرد قال حدثنا أحمد بن أبي عمرو : حدثني أبي حدثني إبراهيم بن طهمان به سواء " وأبو عمرو هو حفص بن عبد الله بن راشد السلمي قاضي نيسابور ووصله أيضا أبو نعيم من طريق عبد الله بن العباس ، والبيهقي من طريق أبي حامد بن الشرفي كلاهما عن أحمد بن حفص به وأما قول الكرماني : عبر البخاري بقوله : وقال إبراهيم ؛ لأنه سمع منه في مقام المذاكرة فغلط عجيب فإن البخاري لم يدرك إبراهيم بن طهمان فضلا عن أن يسمع منه فإنه مات قبل مولد البخاري بست وعشرين سنة وقد ظهر بروايته في الأدب أن بينهما في هذا الحديث رجلين

                                                                                                                                                                                                        قوله والمار على القاعد هو كذا في رواية همام وهو أشمل من رواية ثابت التي قبلها بلفظ الماشي لأنه أعم من أن يكون المار ماشيا أو راكبا وقد اجتمعا في حديث فضالة بن عبيد عند البخاري في الأدب المفرد ، والترمذي وصححه والنسائي ، وصحيح ابن حبان بلفظ يسلم الفارس على الماشي والماشي على القائم ، وإذا حمل القائم على المستقر كان أعم من أن يكون جالسا أو واقفا أو متكئا أو مضطجعا .

                                                                                                                                                                                                        وإذا أضيفت هذه الصورة إلى الراكب تعددت الصور وتبقى صورة لم تقع منصوصة وهي ما إذا تلاقى ماران راكبان أو ماشيان وقد تكلم عليها المازري فقال يبدأ الأدنى منهما الأعلى قدرا في الدين إجلالا لفضله لأن فضيلة الدين مرغب فيها في الشرع وعلى هذا لو التقى راكبان ومركوب أحدهما أعلى في الحس من مركوب الآخر كالجمل والفرس فيبدأ راكب الفرس أو يكتفي بالنظر إلى أعلاهما قدرا في الدين فيبتدؤه الذي دونه هذا الثاني أظهر كما لا نظر إلى من يكون أعلاهما قدرا من جهة الدنيا إلا أن يكون سلطانا يخشى منه وإذا تساوى المتلاقيان من كل جهة فكل منهما مأمور بالابتداء وخيرهما الذي يبدأ بالسلام كما تقدم في حديث المتهاجرين في أبواب الأدب .

                                                                                                                                                                                                        وأخرج البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح من حديث جابر قال الماشيان إذا اجتمعا فأيهما بدأ بالسلام فهو أفضل ذكره عقب رواية ابن جريج عن زياد بن سعد عن ثابت عن أبي هريرة بسنده المذكور عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر وصرح فيه بالسماع وأخرج أبو عوانة وابن حبان في صحيحيهما ، والبزار من وجه آخر عن ابن جريج الحديث بتمامه مرفوعا بالزيادة .

                                                                                                                                                                                                        وأخرج الطبراني بسند صحيح عن الأغر المزني : " قال لي أبو بكر : لا يسبقك أحد إلى السلام " والترمذي من حديث أبي أمامة رفعه إن أولى الناس بالله من بدأ بالسلام وقال : حسن وأخرج الطبراني من حديث أبي الدرداء : قلنا يا رسول الله إنا نلتقي فأينا يبدأ بالسلام ؟ قال أطوعكم لله .

                                                                                                                                                                                                        قوله والقليل على الكثير تقدم تقريره لكن لو عكس الأمر فمر جمع كثير على جمع قليل وكذا لو مر الصغير على الكبير لم أر فيهما نصا واعتبر النووي المرور فقال الوارد يبدأ سواء كان صغيرا أم كبيرا قليلا أم كثيرا ويوافقه قول المهلب : إن المار في حكم الداخل وذكر الماوردي أن من مشى في الشوارع المطروقة [ ص: 19 ] ؛ كالسوق أنه لا يسلم إلا على البعض لأنه لو سلم على كل من لقي لتشاغل به عن المهم الذي خرج لأجله ولخرج به عن العرف .

                                                                                                                                                                                                        قلت ولا يعكر على هذا ما أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " عن الطفيل بن أبي بن كعب قال " كنت أغدو مع ابن عمر إلى السوق فلا يمر على بياع ولا أحد إلا سلم عليه فقلت ما تصنع بالسوق وأنت لا تقف على البيع ولا تسأل عن السلع ؟ قال إنما نغدو من أجل السلام على من لقينا لأن مراد الماوردي من خرج في حاجة له فتشاغل عنها بما ذكر والأثر المذكور ظاهر في أنه خرج لقصد تحصيل ثواب السلام وقد تكلم العلماء على الحكمة فيمن شرع لهم الابتداء فقال ابن بطال عن المهلب : تسليم الصغير لأجل حق الكبير لأنه أمر بتوقيره والتواضع له وتسليم القليل لأجل حق الكثير لأن حقهم أعظم وتسليم المار لشبهه بالداخل على أهل المنزل وتسليم الراكب لئلا يتكبر بركوبه فيرجع إلى التواضع .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن العربي : حاصل ما في هذا الحديث أن المفضول بنوع ما يبدأ الفاضل وقال المازري : أما أمر الراكب فلأن له مزية على الماشي فعوض الماشي بأن يبدأه الراكب بالسلام احتياطا على الراكب من الزهو أن لو حاز الفضيلتين وأما الماشي فلما يتوقع القاعد منه من الشر ولا سيما إذا كان راكبا فإذا ابتدأه بالسلام أمن منه ذلك وأنس إليه أو لأن في التصرف في الحاجات امتهانا فصار للقاعد مزية فأمر بالابتداء أو لأن القاعد يشق عليه مراعاة المارين مع كثرتهم فسقطت البداءة عنه للمشقة بخلاف المار فلا مشقة عليه وأما القليل فلفضيلة الجماعة أو لأن الجماعة لو ابتدءوا لخيف على الواحد الزهو فاحتيط له ولم يقع تسليم الصغير على الكبير في صحيح مسلم وكأنه لمراعاة السن فإنه معتبر في أمور كثيرة في الشرع فلو تعارض الصغر المعنوي والحسي كأن يكون الأصغر أعلم مثلا فيه نظر ولم أر فيه نقلا والذي يظهر اعتبار السن لأنه الظاهر كما تقدم الحقيقة على المجاز ونقل ابن دقيق العيد عن ابن رشد أن محل الأمر في تسليم الصغير على الكبير إذا التقيا فإن كان أحدهما راكبا والآخر ماشيا بدأ الراكب وإن كانا راكبين أو ماشيين بدأ الصغير وقال المازري وغيره هذه المناسبات لا يعترض عليها بجزئيات تخالفها لأنها لم تنصب نصب العلل الواجبة الاعتبار حتى لا يجوز أن يعدل عنها حتى لو ابتدأ الماشي فسلم على الراكب لم يمتنع لأنه ممتثل للأمر بإظهار السلام وإفشائه غير أن مراعاة ما ثبت في الحديث أولى وهو خبر بمعنى الأمر على سبيل الاستحباب .

                                                                                                                                                                                                        ولا يلزم من ترك المستحب الكراهة بل يكون خلاف الأولى فلو ترك المأمور بالابتداء فبدأه الآخر كان المأمور تاركا للمستحب والآخر فاعلا للسنة إلا إن بادر فيكون تاركا للمستحب أيضا وقال المتولي : لو خالف الراكب أو الماشي ما دل عليه الخبر كره ، قال والوارد يبدأ بكل حال .

                                                                                                                                                                                                        وقال الكرماني : لو جاء أن الكبير يبدأ الصغير والكثير يبدأ القليل لكان مناسبا لأن الغالب أن الصغير يخاف من الكبير والقليل من الكثير فإذا بدأ الكبير والكثير أمن منه الصغير والقليل لكن لما كان من شأن المسلمين أن يأمن بعضهم بعضا اعتبر جانب التواضع كما تقدم وحيث لا يظهر رجحان أحد الطرفين باستحقاقه التواضع له اعتبر الإعلام بالسلامة والدعاء له رجوعا إلى ما هو الأصل فلو كان المشاة كثيرا والقعود قليلا تعارضا ويكون الحكم حكم اثنين تلاقيا معا فأيهما بدأ فهو أفضل ويحتمل ترجيح جانب الماشي كما تقدم والله أعلم

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 20 ] قوله ( باب إفشاء السلام ) كذا للنسفي وأبي الوقت ، وسقط لفظ " باب " للباقين والإفشاء الإظهار والمراد نشر السلام بين الناس ليحيوا سنته وأخرج البخاري في " الأدب المفرد " بسند صحيح عن ابن عمر : إذا سلمت فأسمع فإنها تحية من عند الله . قال النووي : أقله أن يرفع صوته بحيث يسمع المسلم عليه فإن لم يسمعه لم يكن آتيا بالسنة .

                                                                                                                                                                                                        ويستحب أن يرفع صوته بقدر ما يتحقق أنه سمعه فإن شك استظهر ويستثنى من رفع الصوت بالسلام ما إذا دخل على مكان فيه أيقاظ ونيام فالسنة فيه ما ثبت في صحيح مسلم عن المقداد قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجيء من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان . ونقل النووي عن المتولي أنه قال يكره إذا لقي جماعة أن يخص بعضهم بالسلام لأن القصد بمشروعية السلام تحصيل الألفة ، وفي التخصيص إيحاش لغير من خص بالسلام .

                                                                                                                                                                                                        9313 قوله ( جرير ) هو ابن عبد الحميد ، والشيباني هو أبو إسحاق ، وأشعث هو ابن أبي الشعثاء بمعجمة ثم مهملة ثم مثلثة فيه وفي أبيه واسم أبيه سليم بن أسود .

                                                                                                                                                                                                        قوله عن معاوية بن قرة ) كذا للأكثر وخالفهم جعفر بن عوف فقال عن الشيباني عن أشعث عن سويد بن غفلة عن البراء وهي رواية شاذة أخرجها الإسماعيلي

                                                                                                                                                                                                        قوله أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع بعيادة المريض الحديث ) ، تقدم في اللباس أنه ذكر في عدة مواضع لم يسقه بتمامه في أكثرها وهذا الموضع مما ذكر فيه سبعا مأمورات وسبعا منهيات والمراد منه هنا إفشاء السلام وتقدم شرح عيادة المريض في الطب واتباع الجنائز فيه وعون المظلوم في كتاب المظالم وتشميت العاطس في أواخر الأدب وسيأتي إبرار القسم في كتاب الأيمان والنذور وسبق شرح المناهي في الأشربة وفي اللباس وأما نصر الضعيف المذكور هنا فسبق حكمه في كتاب المظالم ولم يقع في أكثر الروايات في حديث البراء هذا وإنما وقع بدله إجابة الداعي وقد تقدم شرحه في كتاب الوليمة من كتاب النكاح .

                                                                                                                                                                                                        قال الكرماني : نصر الضعيف من جملة إجابة الداعي لأنه قد يكون ضعيفا وإجابته نصره أو أن لا مفهوم للعدد المذكور وهو السبع فتكون المأمورات ثمانية كذا قال والذي يظهر لي أن إجابة الداعي سقطت من هذه الرواية وأن نصر الضعيف المراد به عون المظلوم الذي ذكر في غير هذه الطريق ويؤيد هذا الاحتمال أن البخاري حذف بعض المأمورات من غالب المواضع التي أورد الحديث فيها اختصارا

                                                                                                                                                                                                        قوله وإفشاء السلام تقدم في الجنائز بلفظ ورد السلام ولا مغايرة في المعنى لأن ابتداء السلام ورده متلازمان ، وإفشاء السلام ابتداء يستلزم إفشاءه جوابا ، وقد جاء إفشاء السلام من حديث البراء بلفظ آخر وهو عند المصنف في " الأدب المفرد ، وصححه ابن حبان من طريق عبد الرحمن بن عوسجة عنه رفعه : أفشوا السلام تسلموا ، وله شاهد من حديث أبي الدرداء مثله عند الطبراني ، ولمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا ألا أدلكم [ ص: 21 ] على ما تحابون به أفشوا السلام بينكم .

                                                                                                                                                                                                        قال ابن العربي : فيه أن من فوائد إفشاء السلام حصول المحبة بين المتسالمين وكان ذلك لما فيه من ائتلاف الكلمة لتعم المصلحة بوقوع المعاونة على إقامة شرائع الدين وإخزاء الكافرين وهي كلمة إذا سمعت أخلصت القلب الواعي لها عن النفور إلى الإقبال على قائلها .

                                                                                                                                                                                                        وعن عبد الله بن سلام رفعه " أطعموا الطعام وأفشوا السلام " الحديث ، وفيه " تدخلوا الجنة بسلام ، أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " وصححه الترمذي والحاكم ، وللأولين وصححه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمرو رفعه " اعبدوا الرحمن وأفشوا السلام " الحديث ، وفيه تدخلوا الجنان " .

                                                                                                                                                                                                        والأحاديث في إفشاء السلام كثيرة منها عند البزار من حديث الزبير وعند أحمد من حديث عبد الله بن الزبير وعند الطبراني من حديث ابن مسعود وأبي موسى وغيرهم ومن الأحاديث في إفشاء السلام ما أخرجه النسائي عن أبي هريرة رفعه إذا قعد أحدكم فليسلم وإذا قام فليسلم فليست الأولى أحق من الآخرة .

                                                                                                                                                                                                        وأخرج ابن أبي شيبة من طريق مجاهد عن ابن عمر قال إن كنت لأخرج إلى السوق وما لي حاجة إلا أن أسلم ويسلم علي ، وأخرج البخاري في " الأدب المفرد " من طريق الطفيل بن أبي بن كعب عن ابن عمر نحوه لكن ليس فيها شيء على شرط البخاري فاكتفى بما ذكره من حديث البراء واستدل بالأمر بإفشاء السلام على أنه لا يكفي السلام سرا بل يشترط الجهر وأقله أن يسمع في الابتداء وفي الجواب ولا تكفي الإشارة باليد ونحوه .

                                                                                                                                                                                                        وقد أخرج النسائي بسند جيد عن جابر رفعه لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرءوس والأكف ، ويستثنى من ذلك حالة الصلاة فقد وردت أحاديث جيدة أنه - صلى الله عليه وسلم - رد السلام وهو يصلي إشارة منها حديث أبي سعيد : أن رجلا سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فرد عليه إشارة ، ومن حديث ابن مسعود نحوه وكذا من كان بعيدا بحيث لا يسمع التسليم يجوز السلام عليه إشارة ويتلفظ مع ذلك بالسلام وأخرجابن أبي شيبة عن عطاء قال يكره السلام باليد ولا يكره بالرأس " .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن دقيق العيد : استدل بالأمر بإفشاء السلام من قال بوجوب الابتداء بالسلام وفيه نظر إذ لا سبيل إلى القول بأنه فرض عين على التعميم من الجانبين وهو أن يجب على كل أحد أن يسلم على كل من لقيه لما في ذلك من الحرج والمشقة فإذا سقط من جانبي العمومين سقط من جانبي الخصوصين إذ لا قائل يجب على واحد دون الباقين ولا يجب السلام على واحد دون الباقين ، قال وإذا سقط على هذه الصورة لم يسقط الاستحباب لأن العموم بالنسبة إلى كلا الفريقين ممكن انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وهذا البحث ظاهر في حق من قال إن ابتداء السلام فرض عين وأما من قال فرض كفاية فلا يرد عليه إذا قلنا إن فرض الكفاية ليس واجبا على واحد بعينه ، قال ويستثنى من الاستحباب من ورد الأمر بترك ابتدائه بالسلام كالكافر قلت ويدل عليه قوله في الحديث المذكور قبل إذا فعلتموه تحاببتم والمسلم مأمور بمعاداة الكافر ؛ فلا يشرع له فعل ما يستدعي محبته ومواددته وسيأتي البحث في ذلك في باب التسليم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين .

                                                                                                                                                                                                        وقد اختلف أيضا في مشروعية السلام على الفاسق وعلى الصبي ، وفي سلام الرجل على المرأة وعكسه ، وإذا جمع المجلس كافرا ومسلما هل يشرع السلام مراعاة لحق المسلمين أو يسقط من أجل الكافر وقد ترجم المصنف لذلك كله وقال النووي : يستثنى من العموم بابتداء السلام من كان مشتغلا بأكل أو شرب أو جماع أو كان في الخلاء أو الحمام أو نائما أو ناعسا أو مصليا أو مؤذنا ما دام متلبسا بشيء مما ذكر فلو لم تكن اللقمة في فم الآكل مثلا شرع السلام عليه ويشرع في حق المتبايعين وسائر المعاملات .

                                                                                                                                                                                                        واحتج له ابن دقيق العيد بأن الناس غالبا يكونون في أشغالهم فلو روعي ذلك لم يحصل امتثال الإفشاء وقال ابن دقيق العيد : احتج من منع السلام على من في الحمام بأنه بيت [ ص: 22 ] الشيطان وليس موضع التحية لاشتغال من فيه بالتنظيف . قال وليس هذا المعنى بالقوي في الكراهة بل يدل على عدم الاستحباب . قلت وقد تقدم في كتاب الطهارة من البخاري : " إن كان عليهم إزار فيسلم وإلا فلا ، وتقدم البحث فيه هناك .

                                                                                                                                                                                                        وقد ثبت في صحيح مسلم عن أم هانئ : " أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يغتسل وفاطمة تستره فسلمت عليه الحديث قال النووي : وأما السلام حال الخطبة في الجمعة فيكره للأمر بالإنصات فلو سلم لم يجب الرد عند من قال الإنصات واجب ويجب عند من قال إنه سنة وعلى الوجهين لا ينبغي أن يرد أكثر من واحد وأما المشتغل بقراءة القرآن فقال الواحدي الأولى ترك السلام عليه فإن سلم عليه كفاه الرد بالإشارة وإن رد لفظا استأنف الاستعاذة وقرأ قال النووي : وفيه نظر والظاهر أنه يشرع السلام عليه ويجب عليه الرد ثم قال وأما من كان مشتغلا بالدعاء مستغرقا فيه مستجمع القلب فيحتمل أن يقال هو كالقارئ والأظهر عندي أنه يكره السلام عليه لأنه يتنكد به ويشق عليه أكثر من مشقة الأكل .

                                                                                                                                                                                                        وأما الملبي في الإحرام فيكره أن يسلم عليه لأن قطعه التلبية مكروه ويجب عليه الرد مع ذلك لفظا أن لو سلم عليه ، قال ولو تبرع واحد من هؤلاء برد السلام إن كان مشتغلا بالبول ونحوه فيكره وإن كان آكلا ونحوه فيستحب في الموضع الذي لا يجب وإن كان مصليا لم يجز أن يقول بلفظ المخاطبة كعليك السلام أو عليك فقط فلو فعل بطلت إن علم التحريم لا إن جهل في الأصح فلو أتى بضمير الغيبة لم تبطل ويستحب أن يرد بالإشارة وإن رد بعد فراغ الصلاة لفظا فهو أحب وإن كان مؤذنا أو ملبيا لم يكره له الرد لفظا لأنه قدر يسير لا يبطل الموالاة .

                                                                                                                                                                                                        وقد تعقب والدي - رحمه الله - في نكته على الأذكار ما قاله الشيخ في القارئ لكونه يأتي في حقه نظير ما أبداه هو في الداعي لأن القارئ قد يستغرق فكره في تدبر معاني ما يقرؤه ثم اعتذر عنه بأن الداعي يكون مهتما بطلب حاجته فيغلب عليه التوجه طبعا والقارئ إنما يطلب منه التوجه شرعا فالوساوس مسلطة عليه ولو فرض أنه يوفق للحاجة العلية فهو على ندور انتهى .

                                                                                                                                                                                                        ولا يخفى أن التعليل الذي ذكره الشيخ من تنكد الداعي يأتي نظيره في القارئ وما ذكره الشيخ في بطلان الصلاة إذا رد السلام بالخطاب ليس متفقا عليه فعن الشافعي نص في أنه لا تبطل لأنه لا يريد حقيقة الخطاب بل الدعاء وإذا عذرنا الداعي والقارئ بعدم الرد فرد بعد الفراغ كان مستحبا .

                                                                                                                                                                                                        وذكر بعض الحنفية أن من جلس في المسجد للقراءة أو التسبيح أو لانتظاره الصلاة لا يشرع السلام عليهم وإن سلم عليهم لم يجب الجواب ، قال وكذا الخصم إذا سلم على القاضي لا يجب عليه الرد وكذلك الأستاذ إذا سلم عليه تلميذه لا يجب الرد عليه كذا قال .

                                                                                                                                                                                                        وهذا الأخير لا يوافق عليه ويدخل في عموم إفشاء السلام السلام على النفس لمن دخل مكانا ليس فيه أحد لقوله - تعالى - : فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم الآية وأخرج البخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة بسند حسن عن ابن عمر " فيستحب إذا لم يكن أحد في البيت أن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " .

                                                                                                                                                                                                        وأخرج الطبري عن ابن عباس ومن طريق كل من علقمة وعطاء ومجاهد نحوه ويدخل فيه من مر على من ظن أنه إذا سلم عليه لا يرد عليه فإنه يشرع له السلام ولا يتركه لهذا الظن لأنه قد يخطئ قال النووي : وأما قول من لا تحقيق عنده أن ذلك يكون سببا لتأثيم الآخر فهو غباوة لأن المأمورات الشرعية لا تترك بمثل هذا ولو أعملنا هذا لبطل إنكار كثير من المنكرات .

                                                                                                                                                                                                        قال وينبغي لمن وقع له ذلك أن يقول له بعبارة لطيفة رد السلام واجب فينبغي أن ترد ليسقط عنك الفرض وينبغي إذا تمادى على الترك أن يحلله من ذلك لأنه حق آدمي ورجح ابن دقيق العيد في شرح الإلمام المقالة التي زيفها النووي بأن مفسدة توريط المسلم في المعصية أشد من ترك مصلحة السلام عليه ولا [ ص: 23 ] سيما وامتثال الإفشاء قد حصل مع غيره




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية