الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                    صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                    تفسير سورة طه هي مكية .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 271 ]

                                                                                                                                                                                                    روى إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب " التوحيد " ، عن زياد بن أيوب ، عن إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثنا إبراهيم بن مهاجر بن مسمار ، عن عمر بن حفص بن ذكوان ، عن مولى الحرقة - يعني عبد الرحمن بن يعقوب - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قرأ " طه " و " يس " قبل أن يخلق آدم بألف عام ، فلما سمعت الملائكة قالوا : طوبى لأمة ينزل عليهم هذا وطوبى لأجواف تحمل هذا ، وطوبى لألسن تتكلم بهذا " .

                                                                                                                                                                                                    هذا حديث غريب ، وفيه نكارة ، وإبراهيم بن مهاجر وشيخه تكلم فيهما .

                                                                                                                                                                                                    بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                    ( طه ( 1 ) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ( 2 ) إلا تذكرة لمن يخشى ( 3 ) تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا ( 4 ) الرحمن على العرش استوى ( 5 ) له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ( 6 ) وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ( 7 ) الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ( 8 ) )

                                                                                                                                                                                                    تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة " البقرة " بما أغنى عن إعادته .

                                                                                                                                                                                                    وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسين بن محمد بن شنبة الواسطي ، حدثنا أبو أحمد - يعني : الزبيري - أنبأنا إسرائيل عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : طه يا رجل . وهكذا روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ومحمد بن كعب ، وأبي مالك ، وعطية العوفي ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، وابن أبزى أنهم قالوا : " طه " بمعنى : يا رجل .

                                                                                                                                                                                                    وفي رواية عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير والثوري أنها كلمة بالنبطية معناها : يا رجل . وقال أبو صالح هي معربة .

                                                                                                                                                                                                    وأسند القاضي عياض في كتابه " الشفاء " من طريق عبد بن حميد في تفسيره : حدثنا هاشم بن [ ص: 272 ] القاسم عن ابن جعفر ، عن الربيع بن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى ، فأنزل الله تعالى ) طه ) ، يعني : طأ الأرض يا محمد ، ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) . ثم قال : ولا خفاء بما في هذا من الإكرام وحسن المعاملة .

                                                                                                                                                                                                    وقوله ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) قال جويبر ، عن الضحاك : لما أنزل الله القرآن على رسوله ، قام به هو وأصحابه ، فقال المشركون من قريش : ما أنزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى! فأنزل الله تعالى : ( طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى ) .

                                                                                                                                                                                                    فليس الأمر كما زعمه المبطلون ، بل من آتاه الله العلم فقد أراد به خيرا كثيرا ، كما ثبت في الصحيحين ، عن معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " .

                                                                                                                                                                                                    وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال :

                                                                                                                                                                                                    حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا العلاء بن سالم ، حدثنا إبراهيم الطالقاني ، حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن سماك بن حرب ، عن ثعلبة بن الحكم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده : إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ، ولا أبالي " .

                                                                                                                                                                                                    إسناده جيد وثعلبة بن الحكم هذا هو الليثي ذكره أبو عمر في استيعابه ، وقال : نزل البصرة ، ثم تحول إلى الكوفة ، وروى عنه سماك بن حرب .

                                                                                                                                                                                                    وقال مجاهد في قوله : ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) : هي كقوله : ( فاقرءوا ما تيسر من ) [ المزمل : 20 ] وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة .

                                                                                                                                                                                                    وقال قتادة : ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) : لا والله ما جعله شقاء ، ولكن جعله رحمة ونورا ، ودليلا إلى الجنة .

                                                                                                                                                                                                    ( إلا تذكرة لمن يخشى ) : إن الله أنزل كتابه ، وبعث رسله رحمة ، رحم بها العباد ، ليتذكر ذاكر ، وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله ، وهو ذكر أنزل الله فيه حلاله وحرامه .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا ) أي : هذا القرآن الذي جاءك يا محمد [ ص: 273 ] هو تنزيل من ربك رب كل شيء ومليكه ، القادر على ما يشاء ، الذي خلق الأرض بانخفاضها وكثافتها ، وخلق السماوات العلا في ارتفاعها ولطافتها . وقد جاء في الحديث الذي صححه الترمذي وغيره . أن سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، وبعد ما بينها والتي تليها مسيرة خمسمائة عام .

                                                                                                                                                                                                    وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا حديث الأوعال من رواية العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                    وقوله ( الرحمن على العرش استوى ) : تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف ، بما أغنى عن إعادته أيضا ، وأن المسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف ، إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف ، ولا تشبيه ، ولا تعطيل ، ولا تمثيل .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ) أي : الجميع ملكه وفي قبضته ، وتحت تصريفه ومشيئته وإرادته وحكمه ، وهو خالق ذلك ومالكه وإلهه ، لا إله سواه ، ولا رب غيره .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وما تحت الثرى ) قال محمد بن كعب : أي ما تحت الأرض السابعة .

                                                                                                                                                                                                    وقال الأوزاعي : إن يحيى بن أبي كثير حدثه أن كعبا سئل فقيل له : ما تحت هذه الأرض ؟ فقال : الماء . قيل : وما تحت الماء ؟ قال : الأرض . قيل : وما تحت الأرض ؟ قال : الماء . قيل : وما تحت الماء ؟ قال : الأرض ، قيل : وما تحت الأرض ؟ قال : الماء . قيل : وما تحت الماء ؟ قال : الأرض ، قيل : وما تحت الأرض ؟ قال : الماء . قيل : وما تحت الماء ؟ قال : الأرض ، قيل : وما تحت الأرض ؟ قال : صخرة . قيل : وما تحت الصخرة ؟ قال : ملك . قيل : وما تحت الملك ؟ قال : حوت معلق طرفاه بالعرش ، قيل : وما تحت الحوت ؟ قال : الهواء والظلمة وانقطع العلم .

                                                                                                                                                                                                    وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي ، حدثنا عبد الله بن عياش ، حدثنا عبد الله بن سليمان عن دراج ، عن عيسى بن هلال الصدفي ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام ، والعليا منها على ظهر حوت ، قد التقى طرفاه في السماء ، والحوت على صخرة ، والصخرة بيد الملك ، والثانية سجن الريح ، والثالثة فيها حجارة جهنم ، والرابعة فيها كبريت جهنم ، والخامسة فيها حيات جهنم والسادسة فيها عقارب جهنم ، والسابعة فيها سقر ، وفيها إبليس مصفد بالحديد ، يد أمامه ويد خلفه ، [ ص: 274 ] فإذا أراد الله أن يطلقه لما يشاء أطلقه " .

                                                                                                                                                                                                    هذا حديث غريب جدا ورفعه فيه نظر .

                                                                                                                                                                                                    وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا أبو موسى الهروي ، عن العباس بن الفضل قال : قلت : ابن الفضل الأنصاري ؟ قال : نعم ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن محمد بن علي ، عن جابر بن عبد الله قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فأقبلنا راجعين في حر شديد ، فنحن متفرقون بين واحد واثنين ، منتشرين ، قال : وكنت في أول العسكر : إذ عارضنا رجل فسلم ثم قال : أيكم محمد ؟ ومضى أصحابي ووقفت معه ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل في وسط العسكر على جمل أحمر ، مقنع بثوبه على رأسه من الشمس ، فقلت : أيها السائل ، هذا رسول الله قد أتاك . فقال : أيهم هو ؟ فقلت : صاحب البكر الأحمر . فدنا منه ، فأخذ بخطام راحلته ، فكف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أنت محمد ؟ قال : " نعم " . قال : إني أريد أن أسألك عن خصال ، لا يعلمهن أحد من أهل الأرض إلا رجل أو رجلان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سل عما شئت " . فقال : يا محمد ، أينام النبي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تنام عيناه ولا ينام قلبه " . قال : صدقت . ثم قال : يا محمد ، من أين يشبه الولد أباه وأمه ؟ قال : ماء الرجل أبيض غليظ ، وماء المرأة أصفر رقيق ، فأي الماءين غلب على الآخر نزع الولد " . فقال صدقت . فقال : ما للرجل من الولد وما للمرأة منه ؟ فقال : " للرجل العظام والعروق والعصب ، وللمرأة اللحم والدم والشعر . قال : صدقت . ثم قال : يا محمد ، ما تحت هذه ؟ يعني الأرض . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خلق " . فقال : فما تحتهم ؟ قال : " أرض " . قال : فما تحت الأرض ؟ قال " الماء " قال : فما تحت الماء ؟ قال : " ظلمة " . قال : فما تحت الظلمة ؟ قال : " الهواء " . قال : فما تحت الهواء ؟ قال : " الثرى " . قال : فما تحت الثرى ؟ ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ، وقال : " انقطع علم المخلوقين عند علم الخالق ، أيها السائل ، ما المسئول عنها بأعلم من السائل " . قال : فقال : صدقت ، أشهد أنك رسول الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس ، هل تدرون من هذا ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " هذا جبريل صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                    هذا حديث غريب جدا ، وسياق عجيب ، تفرد به القاسم بن عبد الرحمن هذا ، وقد قال فيه يحيى بن معين : " ليس يساوي شيئا " وضعفه أبو حاتم الرازي ، وقال ابن عدي : لا يعرف .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 275 ]

                                                                                                                                                                                                    قلت : وقد خلط في هذا الحديث ، ودخل عليه شيء في شيء ، وحديث في حديث . وقد يحتمل أنه تعمد ذلك ، أو أدخل عليه فيه ، فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ) أي : أنزل هذا القرآن الذي خلق الأرض والسماوات العلا ، الذي يعلم السر وأخفى ، كما قال تعالى : ( قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما ) [ الفرقان : 6 ] .

                                                                                                                                                                                                    قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( يعلم السر وأخفى ) قال : السر ما أسر ابن آدم في نفسه ، ( وأخفى ) : ما أخفى على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه فالله يعلم ذلك كله ، فعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد ، وجميع الخلائق في ذلك عنده كنفس واحدة ، وهو قوله : ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) [ لقمان : 28 ] .

                                                                                                                                                                                                    وقال الضحاك : ( يعلم السر وأخفى ) قال : السر ما تحدث به نفسك ، وأخفى : ما لم تحدث به نفسك بعد .

                                                                                                                                                                                                    وقال سعيد بن جبير : أنت تعلم ما تسر اليوم ، ولا تعلم ما تسر غدا ، والله يعلم ما تسر اليوم ، وما تسر غدا .

                                                                                                                                                                                                    وقال مجاهد : ( وأخفى ) يعني : الوسوسة .

                                                                                                                                                                                                    وقال أيضا هو وسعيد بن جبير : ( وأخفى ) أي : ما هو عامله مما لم يحدث به نفسه .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ) أي : الذي أنزل القرآن عليك هو الله الذي لا إله إلا هو ذو الأسماء الحسنى والصفات العلا .

                                                                                                                                                                                                    وقد تقدم بيان الأحاديث الواردة في الأسماء الحسنى في أواخر سورة " الأعراف " ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                    التالي السابق


                                                                                                                                                                                                    الخدمات العلمية