الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الوجه السادس والأربعون : أن معاني الكلام إما خبر وإما طلب وإما استفهام ، والطلب أمر ونهي وإنشاء ، وهذه حقائق ثابتة في أنفسها معقولة متميزة يميز العقل بينها ويحكم بصحة أقسامها ، وكذلك كان تقسيم الكلام إليها صحيحا ، لأنه لما صح تقسيم معناه صح تقسيم لفظه .

فإذا قيل : الطلب ينقسم إلى أمر ونهي كان كل من المنقسمين متميزا بحقيقته عن الآخر لفظا ومعنى ، وهذا بخلاف تقسيم المعنى المدلول عليه إلى حقيقة ومجاز ، فإنه أمر لا يعقل ولا ينفصل فيه أحد القسمين عن الآخر ، فإن المعاني المتصورة إما أن تكون مفردة كتصور الماهيات تصورا ساذجا من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات ، فهذه لا يتصور فيها التقسيم إلى حقيقة ومجاز ، فإنها مجرد صورة ذهنية تنتقش في النفس الناطقة ، وإما أن ينسب الذهن بعضها إلى بعض نسبة خبرية أو طلبية ، وهذه حقيقة الكلام المركب ، وهذه النسبة إما من باب العلوم إن كان خبرية وإما من باب [ ص: 330 ] الإرادات إن كانت طلبية ، والنسبة الخبرية إما صادقة إن طابقت متعلقها ، وإما كاذبة إن لم تطابقه ، والنسبة الطلبية إما إن يكون المطلوب بها معدوما فيطلب إيجاده ، وهو الأمر ، أو موجودا فيطلب إعدامه ، أو معدوما فيطلب إبقاؤه على العدم وكف النفس عنه ، وهو النهي ، وهذه المعاني لا يتصور انقسامها في أنفسها إلى حقيقة ومجاز انقساما معقولا ، فلا يصح انقسام اللفظ الدال عليها ، وهذا عكس انقسام اللفظ إلى خبر وطلب ، والطلب إلى أمر ونهي وإنشاء ، فإن صحة هذا التقسيم اللفظي تابع لصحة انقسام المدلول المعنوي ، وحينئذ فنقول في :

الوجه السابع والأربعين : أنه لو صح تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز لكان ذلك إما باعتبار لفظه فقط أو باعتبار معناه فقط أو باعتبارهما معا ، فالتقسيم إما في الدليل وفي المدلول ! وإما في الدلالة والكل باطل ، فالتقسيم باطل ، أما بطلانه باعتبار لفظه فقط فظاهر ، فإنه لم يقل عاقل : إن اللفظ بقطع النظر عن معناه ومدلوله ينقسم إلى حقيقة ومجاز ، وأما بطلانه باعتبار المعنى فقط فلما قررناه من المعاني لا يتصور فيها الحقيقة فإنها ثابتة وإما منتفية ، فإذا بطل التقسيم باعتبار كل من اللفظ والمعنى بطل باعتبارهما معا .

فإن قيل : بل التقسيم باعتبار الدلالة فإنها إما حقيقة وإما مجازية .

قيل : هذا أيضا لا يصح فإن الدلالة يراد بها أمران : أحدهما : فعل الدال وهو دلالته بلفظه يقال له دلالة ، والثاني : فهم السامع ذلك المعنى من اللفظ ، كما يقال : حصلت له الدلالة ، والأشهر أن الأول بكسر الدال والثاني بفتحها ، وعلى التقديرين فالمعنى المقصود من اللفظ هو حقيقة ، وإن اختلفت وجوه دلالته بحسب غموض المعنى وخفائه ، واقتدار المتكلم على البيان وعجزه ، ومعرفة السامع بلغته وعادة خطابه وتقصيره في ذلك .

فإذا فهم السامع مقصود المتكلم فقد فهم حقيقة كلامه ، لهذا يقال علمت حقيقة مقصودي ، وفهمت حقيقة كلامي ، فإذا قال اقطع عني لسان فلان الشاعر ، وإذا دخلت بلد كذا فإن فيه بحرا فاقتبس منه العلم ، ونحو ذلك ، ففعل ما أمر به صح أن يقال فيه : فهمت حقيقة قولي ، فالدلالة هي الفهم ، والإفهام ينقسم إليهما ، فتقسيم الدلالة إلى حقيقة ومجاز لا يعقل البتة .

الوجه الثامن والأربعون : وهو أيضا يجتث المجاز من أصله ويبين أنه لا حقيقة له [ ص: 331 ] وهو أن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز فرع لثبوت الوضع المغاير للاستعمال ، فكأن أصحابه أوهموا أن جماعة من العقلاء اجتمعوا ووضعوا ألفاظا لمعان ، ثم نقلوا هم أو غيرهم تلك الألفاظ أو أكثرها عند من يقول أكثر اللغة مجاز أو بعضها إلى معان أخر فوضعوها لتلك المعاني أولا ، ولهذه المعاني ثانيا .

وهذا غير معلوم وجوده ، بل الإلهام كاف في النطق باللغات من غير مواضعة متقدمة ، وإن سمي توقيعا ، فمن ادعى وضعا متقدما على استعمال جميع الأجناس فقد قال ما لا علم له به ، وإنما المعلوم الاستعمال ، والقول بالمجاز إنما يصح على قول من يجعل اللغات اصطلاحية ، وأن العقلاء أجمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا وهذا بكذا ، وهذا مما لا يمكن بشرا على وجه الأرض لو عمر عمر نوح أن يثبت أن جماعة من العرب اجتمعوا ووضعوا جميع هذه الأسماء المستعملة في اللغة ، ثم استعملوها بعد الوضع ، ثم نقلوها بعد الاستعمال ، وإنما المعروف المنقول بالتواتر استعمال هذه الألفاظ فيما عنوه بها من المعاني .

فإن قيل : نحن نثبت الوضع بالدليل العقلي ، فإن الاستعمال يستلزم سابقة الوضع ، ووجود الملزوم بدون لازمه محال ، قيل : الجواب من وجهين :

أحدهما : أن دعوى اللزوم دعوى لا دليل عليها ، ولا تكون مقبولة ، فمن أين لكم أن الاستعمال مستلزم سابقة الوضع والاصطلاح : أبالعقل علم هذا اللزوم أو بالشرع وبالضرورة عرف أم بالنظر .

الثاني : أنا نعلم بالمشاهدة ما يدل على خلاف ذلك ، فإن الله سبحانه يلهم الحيوانات والطير ما يعرف به بعضها مراد بعض ، والإنسان أشد قبولا للإلهام من الحيوانات ، وقد سمى الله ذلك منطقا في قوله عن نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام : ( علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ) وحكى عن النملة قولها : ( ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ) وأوحى إلى الجبال والطير أن تسبح مع نبيه داود ، وكذلك الآدمي ، فإن المولود إذا ظهر منه التمييز سمع أبويه أو من يربيه ينطق باللفظ ويشير إلى المعنى ، فيفهم أن اللفظ متى أطلق أريد به ذلك المعنى ، ثم لا يزال يسمع لفظا بعد لفظ ، ويعقل معنى دون معنى على التدريج حتى يعرف لغة القوم الذين نشأ بينهم من غير أن يكونوا قد اصطلحوا معه على وضع متقدم ، ولا وقفوه على معاني [ ص: 332 ] الأسماء ، وإن كان أحيانا قد يسأل عن مسمى بعض الأسماء فيوقف عليها ، كما يترجم للرجل اللغة التي لا يعرفها فيوقف على معانيها ، لا أنه يصطلح معه على وضع ألفاظها لمعانيها .

ولا ننكر أن يحدث في كل زمان أوضاع لما يحدث من المعاني التي لم تكن قبل ، ولا سيما أرباب كل صناعة ، فإنهم يضعون لآلات صناعتهم من الأسماء ما يحتاجون إليه في تفهيم بعضهم مراد بعض عند التخاطب ، ولا تتم مصلحتهم إلا بذلك ، وهذا أمر عام لأهل كل صناعة مقترحة أو غير مقترحة ، بل أهل كل علم من العلوم قد اصطلحوا على ألفاظ يستعملونها في علومهم تدعو حاجتهم إليها للفهم والتفهيم ، فهذه الاصطلاحات الحادثة والتي يعرف فيها الوضع السابق على الاستعمال ، وليس الكلام فيها .

والظاهر ، والله أعلم ، أن أرباب المجاز قاسوا أصول اللغة عليها ، وظنوا أن التخاطب العام بأصل اللغة جار هذا المجرى ، وإدخال المجاز في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكلام العرب بهذا الطريق باطل قطعا .

وكأني ببعض أصحاب القلوب الغلف يقول : وهل لأحد أن يحمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقطعوا عني لسانه " لمن امتدحه ، وقوله " إن خالدا سيف من سيوف الله " وقوله في الفرس : " إن وجدناه لبحرا " وقوله عن حمزة : " إنه أسد الله وأسد رسوله " وقوله عن الحجر الأسود : " إنه يمين الله في الأرض " وقوله : " الآن حمي الوطيس " وقوله : " اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد " ونحو ذلك ، على حقيقته .

فيقال له : وما حقيقة ذلك عندك ؟ فإنك أخطأت كل خطأ إذ ظننت أن حقيقته غير المعنى المراد به ، والمفهوم منه هو إسكات المادح عنه بالعطاء فيقطع لسان مقاله ، وكون خالدا يقتل المشركين كما يقتل السيف المسلول الذي لا يحتاج إلى أن ينتضى ، بل هو مسلول مستعد للقتل ، وكونحمزة مفترسا لأعداء الله إذا رأى المشرك لم يلبث أن يفترسه ، كما أن الأسد إذا رأى الغير لم يدعه حتى يفترسه ، وكون مقبل الحجر [ ص: 333 ] الأسود بمنزلة مقبل يمين الرحمن ، لا أنه نفس صفته القديمة وعين يده التي خلق بها آدم ويطوي بها السماوات والأرض ، وكون الحرب منزلة التنور الذي يسجر قليلا قليلا حتى يشتد حموه ، فيحرق ما يلقى فيه ، وكون الخطايا بمنزلة الوسخ والدرن يوسخ البدن ويوهنه يضعف قواه ، والثلج والبرد والماء البارد يزيل درنه ويعيد قوته ويزيده صلابة وشدة ، فهل لهذه الألفاظ حقيقة إلا ذلك وما استعملت إلا في حقائقها .

فهذا التقييد والتركيب عين المراد منها بحيث لا تحتمل غيره ، كما أن التقييد والتركيب في قولك : جاء الثلج حتى عم الأرض وأصاب البرد الزرع ، والماء البارد يروي الظمآن ، والأسد ملك الوحوش ، والسيف ملك السلاح ، وفي قطع اللسان الدية ، وإذا حمي الوطيس فضع فيه العجين ، لا يحتمل غير المراد منه في هذا التركيب ، فهذا مقيد وهذا مقيد ، وهذا موضوع وهذا موضوع ، وهذا مستعمل وهذا مستعمل ، وهذا لا يحتمل غير معناه وهذا لا يحتمل غير معناه ، فأي كتاب أو سنة ، أو عقل أو نظير ، أو قياس صحيح ، أو مناسبة معتبرة ، أو قول من يحتج بقوله جعل هذا حقيقة وهذا مجاز ، وهذا يتبين ويظهر جدا .

الوجه التاسع والأربعون : وهو أن الخائضين في المجاز تارة يخوضون فيه إخبارا وحملا لكلام المتكلم عليه ، وتارة يخوضون فيه استعمالا في الخطب والرسائل والنظم والنثر ، فينقلون ألفاظا لها معان في اللغة إلى معان أخر تشابهها ، ويقولون : استعرنا هذه الألفاظ لهذه المعاني ، لا يخرج كلامهم في المجاز عن هذين الأصلين البتة ، فيجب التمييز بين الحمل والاستعمال ، فإذا قالوا : نحمل هذا اللفظ في كلام المتكلم على مجازه ، إما أن يريدوا به الإخبار عنه بأنه صرفه عن معناه المفهوم منه في أصل التخاطب إلى غيره ، فهذا خبر ، وهو إما صدق إن طابق الواقع ، وإما كذب إن لم يطابق ، فمن أين لكم أنه لم يرد به معناه المفهوم منه عند الخطاب .

وإن عنيتم بالحمل أنا ننشئ له من عندنا وضعا لمعنى أن يستعمل فيه ثم نعتقد أن المتكلم أراد ذلك المعنى ، كان هذا خطأ من وجهين : أحدهما : إنشاء وضع جديد لذلك اللفظ والثاني : اعتقاد إرادة المتكلم لذلك المعنى وتنزيل كلامه على ذلك الوضع ، فإذا قال قائل : اليد مجاز في القدرة ، والاستواء مجاز في الاستيلاء ، والرحمة مجاز في الإنعام ، والغضب مجاز في الانتقام ، والتكلم مجاز في الإنعام ، في الإكرام ، قيل : تعنون بكونها مجازا في ذلك أن لكم أن تستعملوها في هذه المعاني وتعبرون عنها [ ص: 334 ] بهذه العبارات ، أم تعنون أنها إذا وردت في كلام الله ورسوله كان المفهوم منها هذه المعاني ، وهي مجازات فيها .

فإن أردتم الأول فأنتم وذاك ، فاستعملوها فيما أردتم ، وسموا ذلك الاستعمال ما شئتم ، وإن أردتم الثاني كنتم مخطئين من وجهين : أحدهما : حكمكم على الله ورسوله أنه أراد بهذه الألفاظ خلاف معانيها المفهومة منها عند التخاطب ، فإن هذا ضد البيان والتفهيم ، وهو بالتلبيس أشبه منه بالتبيين ، فتعالى عنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين ، وقد صرح الناس قديما وحديثا بأن الله لا يجوز أن يتكلم بشيء ويعني به خلاف ظاهره .

قال الشافعي : وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على ظاهره ، وقال صاحب المحصل في الباب التاسع من أحكام اللغات ( المسألة الثانية ) لا يجوز أن يعني الله سبحانه بكلامه خلاف ظاهره ، والخلاف فيه مع المرجئة ، قال : لنا أن اللفظ بالنسبة إلى غير ظاهره مهمل ، والتكلم به غير جائز على الله تعالى .

ثم أجاب عن شبه المنازعين بأن قال : لو صح ما ذكرتموه لم يبق لنا اعتماد على شيء من أخبار الله تعالى ، لأنه ما من خبر إلا ويحتمل أن يكون المراد به غير ظاهره ، وذلك ينفي الوثوق . اهـ .

وعلى هذا فنقول : إذا كان ظاهر كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والأصل فيه الحقيقة لم يجز أن يحمل على مجازه ، وخلاف ظاهره البتة لما ذكره من الدليل ، فإن المجاز لو صح كان خلاف الأصل والظاهر ، ولا يجوز الشهادة على الله سبحانه ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم أنه أراد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته ، ولا في موضع واحد البتة ، بل كل موضع ظهر فيه المراد بذلك التركيب والاقتران فهو ظاهره وحقيقته لا ظاهر له غيره ، ولا حقيقة له سواه ، فقوله تعالى : ( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ) حقيقته وظاهره أنه أجاعها بعد شبعها ، وأخافها بعد أمنها ، وألبس بواطنها ذل الجوع وذل الخوف ، فصار ذلك لباسا لبواطنهم تذوقه وتباشره ، ولباس كل شيء بحسبه ، ولباس الظاهر ظاهر ، ولباس الباطن باطن ، فذوق كل شيء بحسبه ، فذوق الطعام والشراب بالفم ، وذوق الجوع والخوف بالقلب ، وذوق الإيمان بالقلب أيضا ، كقوله صلى الله عليه وسلم " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ، فهذا الذوق [ ص: 335 ] الباطن بالحاسة الباطنة ، وذوق الظاهر بالحاسة الظاهرة ، وهذا حقيقة في مورده ، وهذا حقيقة في مورده .

وكذلك الحلاوة والطعم هي بحسب المضاف إليه ، فحلاوة الإيمان وطعمه معنويان ، وحلاوة العسل وطعمه حسيان ، كل منهما حقيقة فيما أضيف إليه .

والمقصود بهذا الوجه أنه إن ظهر مراد المتكلم لم يجز أن يحمل على خلاف ظاهره ويدعى أنه مجاز بالنسبة إلى ذلك المحمل ، إذ حقيقته هو المفهوم منه ، فدعوى المجاز باطلة وإن ادعي صرفه عن ظاهره إلى خلافه وأن ذلك مجاز فهو باطل أيضا ، فبطلت دعوى المجاز على التقديرين ، فإن ظاهر اللفظ ومفهومه وحقيقته لا يكون مجازا البتة ، وهؤلاء تارة يجعلونه مجازا فيما لا ظاهر له غير معناه ، فيكون خطؤهم في اللفظ والتسمية ، وتارة يجعلونه مجازا في خلاف ظاهره والمفهوم منه ويعدون أنه المراد ، فيكونون مخطئين من وجهين : من جهة اللفظ والمعنى .

الوجه الخمسون : أن القائلين بالمجاز ، منهم من أسرف فيه وغلا حتى ادعى أن أكثر ألفاظ القرآن بل أكثر اللغة مجاز ، واختار هذا جماعة ممن ينتسب إلى التحقيق والتدقيق ، ولا تحقيق ولا تدقيق ، وإنما هو خروج عن سواء الطريق ومفارقة للتوفيق ، وهؤلاء إذا ادعوا أن المجاز هو الغالب صار هو الأصل ، ولا يصح قولهم : الأصل الحقيقة ، وإذا تعارض المجاز والحقيقة تعينت الحقيقة ، إذ الإلحاق بالغالب الكثير أولى منه بالنادر الأقل .

فإن الأصل يطلق على معان أربعة أحدها : ما منه الشيء ، وهذا أولى معانيه باللغة ، كالخشب أصل السرير ، والحديد أصل السيف ، الثاني : دليل الشيء كأصول الفقه ، أي أدلته ، الثالث : الصور المقيس عليها ، والمقيسة هي الفرع ، الرابع : الأكثر أصل الأقل ، والغالب أصل المغلوب ، ومنه أصل الحقيقة ، فإذا كان المجاز هو الأكثر الغالب بقي هو الأصل ، وحينئذ فطرد قول هؤلاء إنه إذا ورد اللفظ يحتمل الحقيقة والمجاز يحمل على مجازه لأنه الأكثر والغالب ، وفي هذا من فساد العلوم والأديان وفساد البيان الذي علمه الرحمن الإنسان ، وعده عليه من جملة الإحسان والامتنان ما لا يخفى ، إذ قد انتهى الأمر إلى هذا فلا بد من ذكر قول هذا القائل وبيان فساده فنقول في :

التالي السابق


الخدمات العلمية