الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا

قوله تعالى : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى قوله تعالى : فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه الآية .

نزلت في يهود المدينة وما والاها . قال ابن إسحاق : وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود ، إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال : أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ؛ ثم طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله عز وجل ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى قوله قليلا . ومعنى يشترون يستبدلون فهو في موضع نصب على الحال ، وفي الكلام حذف تقديره يشترون الضلالة بالهدى ؛ كما قال تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى [ ص: 209 ] قاله القتبي وغيره .

ويريدون أن تضلوا السبيل عطف عليه ، والمعنى تضلوا طريق الحق . وقرأ الحسن : " تضلوا " بفتح الضاد أي عن السبيل .

قوله تعالى : والله أعلم بأعدائكم يريد منكم ؛ فلا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم . ويجوز أن يكون أعلم بمعنى عليم ؛ كقوله تعالى : وهو أهون عليه أي هين . وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا الباء زائدة ؛ زيدت لأن المعنى اكتفوا بالله فهو يكفيكم أعداءكم . ووليا ونصيرا نصب على البيان ، وإن شئت على الحال .

قوله تعالى : من الذين هادوا قال الزجاج : إن جعلت من متعلقة بما قبل فلا يوقف على قوله نصيرا ، وإن جعلت منقطعة فيجوز الوقف على نصيرا والتقدير من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم ؛ ثم حذف . وهذا مذهب سيبويه ، وأنشد النحويون :


لو قلت ما في قومها لم تيثم يفضلها في حسب وميسم

قالوا : المعنى لو قلت ما في قومها أحد يفضلها ؛ ثم حذف . وقال الفراء : المحذوف " من " المعنى : من الذين هادوا من يحرفون . وهذا كقوله تعالى : وما منا إلا له مقام معلوم أي من له . وقال ذو الرمة :


فظلوا ومنهم دمعه سابق له     وآخر يذري عبرة العين بالهمل

يريد ومنهم من دمعه ، فحذف الموصول . وأنكره المبرد والزجاج ؛ لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخعي " الكلام " . قال النحاس : و " الكلم " في هذا أولى ؛ لأنهم إنما يحرفون كلم النبي صلى الله عليه وسلم ، أو ما عندهم في التوراة وليس يحرفون جميع الكلام ، ومعنى يحرفون يتأولونه على غير تأويله . وذمهم الله تعالى بذلك لأنهم يفعلونه متعمدين . عن مواضعه يعني صفة النبي صلى الله عليه وسلم . ويقولون سمعنا وعصينا أي سمعنا قولك وعصينا أمرك . واسمع غير مسمع قال ابن عباس : كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : اسمع لا سمعت ، هذا مرادهم - لعنهم الله - وهم يظهرون أنهم يريدون اسمع غير مسمع مكروها ولا أذى . وقال الحسن ومجاهد . معناه غير مسمع منك ، أي مقبول ولا مجاب إلى ما تقول . قال النحاس : ولو كان كذلك لكان غير مسموع منك . وتقدم القول في وراعنا ومعنى ليا بألسنتهم أي يلوون ألسنتهم عن الحق أي [ ص: 210 ] يميلونها إلى ما في قلوبهم . وأصل اللي الفتل ، وهو نصب على المصدر ، وإن شئت كان مفعولا من أجله . وأصله لويا ثم أدغمت الواو في الياء . وطعنا معطوف عليه أي يطعنون في الدين ، أي يقولون لأصحابهم لو كان نبيا لدرى أننا نسبه ، فأظهر الله تعالى نبيه على ذلك فكان من علامات نبوته ، ونهاهم عن هذا القول . ومعنى وأقوم أصوب لهم في الرأي . فلا يؤمنون إلا قليلا أي إلا إيمانا قليلا لا يستحقون به اسم الإيمان . وقيل : معناه لا يؤمنون إلا قليلا منهم ؛ وهذا بعيد لأنه عز وجل قد أخبر عنهم أنه لعنهم بكفرهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية