الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                    صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                    ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ( 110 ) وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ( 111 ) ) .

                                                                                                                                                                                                    يقول تعالى : قل يا محمد ، لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله - عز وجل - المانعين من تسميته بالرحمن : ( ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ) أي : لا فرق بين دعائكم له باسم " الله " أو باسم " الرحمن " ، فإنه ذو الأسماء الحسنى ، كما قال تعالى : ( هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ) إلى أن قال : ( له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) [ الحشر : 22 - 24 ] .

                                                                                                                                                                                                    وقد روى مكحول أن رجلا من المشركين سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول في سجوده : " يا رحمن يا رحيم " ، فقال : إنه يزعم أنه يدعو واحدا ، وهو يدعو اثنين . فأنزل الله هذه الآية . وكذا روي عن ابن عباس ، رواهما ابن جرير .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( ولا تجهر بصلاتك ) الآية ، قال الإمام أحمد :

                                                                                                                                                                                                    حدثنا هشيم ، حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية وهو متوار بمكة ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ) قال : كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ، وسبوا من أنزله ، ومن جاء به . قال : فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( ولا تجهر بصلاتك ) أي : بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن [ ص: 129 ] ) ولا تخافت بها ) عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك ) وابتغ بين ذلك سبيلا ) .

                                                                                                                                                                                                    أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به ، وكذا روى الضحاك عن ابن عباس ، وزاد : " فلما هاجر إلى المدينة ، سقط ذلك ، يفعل أي ذلك شاء " .

                                                                                                                                                                                                    وقال محمد بن إسحاق : حدثني داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي ، تفرقوا عنه وأبوا أن يسمعوا منه ، فكان الرجل إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو وهو يصلي ، استرق السمع دونهم فرقا منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ، ذهب خشية أذاهم فلم يستمع ، فإن خفض صوته صلى الله عليه وسلم لم يستمع الذين يستمعون من قراءته شيئا ، فأنزل الله ) ولا تجهر بصلاتك ) فيتفرقوا عنك ) ولا تخافت بها ) فلا تسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك دونهم ، لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع ، فينتفع به ) وابتغ بين ذلك سبيلا )

                                                                                                                                                                                                    وهكذا قال عكرمة ، والحسن البصري ، وقتادة : نزلت هذه الآية في القراءة في الصلاة .

                                                                                                                                                                                                    وقال شعبة عن أشعث بن أبي سليم عن الأسود بن هلال ، عن ابن مسعود : لم يخافت بها من أسمع أذنيه .

                                                                                                                                                                                                    قال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن علية ، عن سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين قال : نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته ، وأن عمر كان يرفع صوته ، فقيل لأبي بكر : لم تصنع هذا ؟ قال : أناجي ربي - عز وجل - وقد علم حاجتي . فقيل : أحسنت . وقيل لعمر : لم تصنع هذا ؟ قال : أطرد الشيطان ، وأوقظ الوسنان . قيل أحسنت . فلما نزلت : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ) قيل لأبي بكر : ارفع شيئا ، وقيل لعمر : اخفض شيئا .

                                                                                                                                                                                                    وقال أشعث بن سوار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : نزلت في الدعاء . وهكذا روى الثوري ، ومالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : نزلت في الدعاء . وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو عياض ، ومكحول ، وعروة بن الزبير .

                                                                                                                                                                                                    وقال الثوري عن [ ابن ] عياش العامري ، عن عبد الله بن شداد قال : كان أعراب من بني تميم إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : اللهم ارزقنا إبلا وولدا . قال : فنزلت هذه الآية : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) [ ص: 130 ]

                                                                                                                                                                                                    قول آخر : قال ابن جرير : حدثنا أبو السائب ، حدثنا حفص بن غياث ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، نزلت هذه الآية في التشهد : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها )

                                                                                                                                                                                                    وبه قال حفص ، عن أشعث بن سوار ، عن محمد بن سيرين ، مثله .

                                                                                                                                                                                                    قول آخر : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) قال : لا تصل مراءاة الناس ، ولا تدعها مخافة الناس . وقال الثوري ، عن منصور ، عن الحسن البصري : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) قال : لا تحسن علانيتها وتسيء سريرتها . وكذا رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحسن ، به . وهشيم ، عن عوف ، عنه به . وسعيد ، عن قتادة ، عنه كذلك .

                                                                                                                                                                                                    قول آخر : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : ( وابتغ بين ذلك سبيلا ) قال : أهل الكتاب يخافتون ، ثم يجهر أحدهم بالحرف فيصيح به ، ويصيحون هم به وراءه ، فنهاه أن يصيح كما يصيح هؤلاء ، وأن يخافت كما يخافت القوم ، ثم كان السبيل الذي بين ذلك ، الذي سن له جبريل من الصلاة .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ) لما أثبت تعالى لنفسه الكريمة الأسماء الحسنى ، نزه نفسه عن النقائص فقال : ( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ) بل هو الله الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد .

                                                                                                                                                                                                    ( ولم يكن له ولي من الذل ) أي : ليس بذليل فيحتاج أن يكون له ولي أو وزير أو مشير ، بل هو تعالى [ شأنه ] خالق الأشياء وحده لا شريك له ، ومقدرها ومدبرها بمشيئته وحده لا شريك له .

                                                                                                                                                                                                    قال مجاهد في قوله : ( ولم يكن له ولي من الذل ) لم يحالف أحدا ولا يبتغي نصر أحد .

                                                                                                                                                                                                    ( وكبره تكبيرا ) أي : عظمه وأجله عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا .

                                                                                                                                                                                                    قال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني أبو صخر ، عن القرظي أنه كان يقول في هذه الآية : ( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ) الآية ، قال : إن اليهود والنصارى قالوا : اتخذ الله ولدا ، وقال العرب : [ لبيك ] لبيك ، لا شريك لك ؛ إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك . وقال الصابئون والمجوس : لولا أولياء الله لذل . فأنزل الله هذه الآية : ( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا )

                                                                                                                                                                                                    وقال أيضا : حدثنا بشر ، [ حدثنا يزيد ] حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان [ ص: 131 ] يعلم أهله هذه الآية ( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ) الصغير من أهله والكبير .

                                                                                                                                                                                                    قلت : وقد جاء في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها آية " العز " وفي بعض الآثار : أنها ما قرئت في بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                    وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا بشر بن سيحان البصري ، حدثنا حرب بن ميمون ، حدثنا موسى بن عبيدة الربذي ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هريرة قال : خرجت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ويدي في يده ، فأتى على رجل رث الهيئة ، فقال : " أي فلان ، ما بلغ بك ما أرى ؟ " . قال : السقم والضر يا رسول الله . قال : " ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر ؟ " . قال : لا قال : ما يسرني بها أن شهدت معك بدرا أو أحدا . قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " وهل يدرك أهل بدر وأهل أحد ما يدرك الفقير القانع ؟ " . قال : فقال أبو هريرة : يا رسول الله ، إياي فعلمني قال : فقل يا أبا هريرة : " توكلت على الحي الذي لا يموت ، الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ، ولم يكن له شريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل ، وكبره تكبيرا " . قال : فأتى علي رسول الله وقد حسنت حالي ، قال : فقال لي : " مهيم " . قال : قلت : يا رسول الله ، لم أزل أقول الكلمات التي علمتني .

                                                                                                                                                                                                    إسناده ضعيف وفي متنه نكارة . [ والله أعلم ] .

                                                                                                                                                                                                    التالي السابق


                                                                                                                                                                                                    الخدمات العلمية